صفحة جزء
ومن الحوادث

غزاة الفتح وكانت في رمضان

قال علماء السير: لما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية كلمت بنو نفاثة - وهم من بني [بكر] - أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح ، فوعدوهم ووافوهم [بالوتير] متنكرين فيهم صفوان بن أمية ، وحويطب ، ومكرز فبيتوا خزاعة ليلا وهم غارون ، فقتلوا منهم عشرين [رجلا] . ثم ندمت قريش على ما صنعت ، وعلموا أن هذا نقض للعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه ، فقام وهو يجر رداءه ، ويقول: "لا نصرت إن لم أنصر بني كعب [مما أنصر منه نفسي" ] . وقدم أبو سفيان بن حرب ، فسأله أن يجدد العهد فأبى ، فانصرف ، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخفى أمره ، وقال: "اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة" ، فلما أجمع السير كتب حاطب بن أبي بلتعة [إلى قريش ] يخبرهم بذلك ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والمقداد ، فأخذوا كتابه ورسوله . [ ص: 325 ]

أخبرنا هبة الله بن محمد ، [أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، قال:

أخبرني حسن بن محمد بن علي ، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي رافع ، وقال مرة: إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع] عليا رضي الله عنه يقول:

بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها" . فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا: أخرجي الكتاب ، قالت: ما معي كتاب . فقلنا:

لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب . قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه:
من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين [بمكة ] ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ، ما هذا؟!" قال: لا تعجل علي ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من [كان] معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد صدقكم" . فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال: "إنه شهد بدرا . وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال:

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
. رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين . [ ص: 326 ]

قال العلماء في السير : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلهم أسلم وغفار ومزينة ، وجهينة وأشجع [وسليم] ، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه في الطريق وكان المسلمون في غزاة الفتح عشرة آلاف ، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر ، وقد أقام الزبير في مائتين وعقد الألوية والرايات بقديد ، ونزل مر الظهران عشاء ، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارا ، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم ، فبعثوا أبا سفيان يتحسس الأخبار ، وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا .

فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، فلما رأوا العسكر أفزعهم ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرس تلك الليلة عمر بن الخطاب ، فسمع العباس [بن عبد المطلب] صوت أبي سفيان ، فقال: أبا حنظلة ، فقال: لبيك . قال: فما وراءك؟ قال:

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف ، فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك ، فأجاره وخرج به وبصاحبيه حتى أدخلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا وجعل لأبي سفيان أن من دخل داره فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في كتيبته [الخضراء] وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير ، فقال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما ، فقال: ويحك إنه ليس بملك ولكنها نبوة ، قال: نعم .

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة أن يدخل من كداء ، والزبير أن يدخل من كدى ، وخالد بن الوليد من الليط ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر ، ونهى عن القتال غير أنه أمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل فهرب ثم استأمنت له امرأته أم حكيم بنت الحارث فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهبار بن الأسود ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فاستأمن له عثمان ، وكان أخاه من الرضاعة ، ومقيس بن ضبابة قتله نميلة بن عبد الله [ ص: 327 ] الليثي ، والحويرث بن نفيل بن قصي ، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله ابن هلال بن خطل ، قتله أبو برزة ، وقيل سعيد بن حريث ، وهند بنت عتبة ، فأسلمت ، وسارة مولاة عمرو بن هاشم قتلت ، وقريبة قتلت ، [وفرتنا] أومنت حتى ماتت في خلافة عثمان . وكل الجنود لم يلقوا جمعا غير خالد؛ فإنه لقيه صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة في جمع من قريش بالخندمة ، فمنعوه من الدخول وشهروا السلاح ورموه بالنبل ، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم ، فقتل أربعة وعشرين [رجلا] من قريش وأربعة [نفر] من هذيل ، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم [على ثنية أذاخر رأى البارقة] فقال: "ألم أنه عن القتال؟" فقيل: خالد قوتل فقاتل . وقتل من المسلمين رجلان أخطئا الطريق:

كرز بن جابر ، وخالد الأشقر .

وضربت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحجون ، ودخل مكة عنوة ، فأسلم الناس طائعين وكارهين ، وطاف بالبيت على راحلته ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل فيقع الصنم لوجهه ، وكان أعظمها هبل ، وهو وجاه الكعبة ، فجاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة ، فصلى خلفه ركعتين ثم جلس ناحية [من المسجد] وأرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة أن يأتي بمفتاح الكعبة ، فجاء به عثمان فقبضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح الباب ودخل الكعبة ، فصلى فيها ركعتين ، وخرج فدعى عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح ، وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم" . ودفع السقاية إلى العباس [بن عبد المطلب] ، وأذن بلال بالظهر فوق الكعبة ، وكسرت الأصنام ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى يومئذ ثمان ركعات .
[ ص: 328 ]

أخبرنا ابن الحصين ، قال: أخبرنا ابن المذهب ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أخبرنا محمد بن جعفر ، قال:

أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، قال: ما أخبرني أحد أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ ، فإنها حدثته:

أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات ما رأته صلى صلاة قط أخف منها ، غير أنه كان يتم الركوع والسجود .
أخرجاه في الصحيحين .

وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني ، فقال: " [إن الله قد] حرم مكة يوم خلق السموات والأرض " . وخطب على الصفا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا يبايع الناس على الإسلام ، ثم بايع النساء ، فجاءت هند متنكرة ، فبايعت ، وجعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور .

وما صافح امرأة في البيعة ، وإنما كان يقول بلسانه ، وقال يوم الفتح: "لا هجرة ولكن جهاد ونية"
. أخبرنا ابن الحصين بإسناد له عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : "لا هجرة ولكن جهاد ونية" وجلس على الصفا . أخبرنا عبد الحق ، أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد ، أخبرنا محمد بن عبد الملك ، حدثنا علي بن عمر الدارقطني ، أخبرنا أبو القاسم بن منيع ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا سلام بن مسكين ، عن ثابت ، عن عبد الله بن رباح] ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى مكة ليفتحها صعد الصفا ، فخطب الناس ، فقالت [ ص: 329 ] الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأخذته الرأفة بقومه والرغبة في قربته ، فأنزل الله تعالى الوحي بما قالت الأنصار ، فقال: "يا معشر الأنصار ، تقولون: أما الرجل فقد أدركته الرأفة بقومه والرغبة في قربته ، فمن أنا إذن؟! كلا والله إني عبد الله ورسوله حقا ، المحيا محياكم والممات مماتكم" قالوا: والله يا رسول الله ما قلنا ذلك إلا مخافة أن تفارقنا ، قال: "أنتم صادقون عند الله [وعند] رسوله" . قال: والله ما فيهم إلا من أبحر بالدموع . وهرب يومئذ عبد الله بن الزبعري ، ثم عاد فأسلم ، وهرب هبيرة بن أبي وهب وأقام كافرا .

وكان فتح مكة [يوم الجمعة] لعشر بقين من رمضان ، فأقام بها خمس عشرة ليلة يصلي ركعتين ثم خرج إلى حنين ، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد يصلي بهم ، ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه .

[أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر ، أخبرنا أبو محمد الجوهري ، أخبرنا أبو عمر بن حيويه ، أخبرنا أحمد بن معروف ، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة ، أخبرنا محمد بن سعد ، أخبرنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه] عن عائشة رضي الله عنها:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من أعلى مكة ، وخرج من أسفل مكة

التالي السابق


الخدمات العلمية