صفحة جزء
ومن ذلك أنه أنفذ جيش أسامة بن زيد [وارتد من ارتد]

[أخبرنا محمد بن الحسين ، وإسماعيل بن أحمد ، قال: حدثنا ابن النقور ، قال:

أخبرنا المخلص ، قال حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال: حدثنا السري بن يحيى ، قال:

حدثنا شعيب بن إبراهيم ، قال: حدثنا سيف بن عمر ، عن أبي ضمرة عن أبيه] ، عن عاصم بن عدي ، قال:

نادى منادي أبي بكر من بعد الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليتم بعث أسامة ، ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف . وقام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: يا أيها الناس ، إنما أنا مثلكم ، وإني لا أدري [ ص: 74 ] لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطيق ، إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات .

[وحدثنا سيف] عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال: لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار على الأمر الذي افترقوا عنه ، قام ليتم بعث أسامة ، وقد ارتدت العرب ، ونجم النفاق ، واشرأبت اليهودية والنصرانية ، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم ، فقال له الناس: إن هؤلاء جل المسلمين ، والعرب على ما ترى [قد انتقضت بك] ، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين . فقال أبو بكر: والذي نفس أبي بكر بيده ، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته .

فلما فصل أسامة ارتدت العرب وتروخي عن مسيلمة وطليحة ، فاستغلظ أمرهما وارتدت غطفان إلا ما كان من أشجع وخواص من الأفناء ، وقدمت هوازن رجلا وأخرت أخرى ، أمسكوا الصدقة إلا ما كان من ثقيف ، وارتدت خواص من سليم ، وكذلك سائر الناس بكل مكان ، وقدمت رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اليمن واليمامة وبلاد بني أسد ، فكان أول من صادم أبو بكر عبسا وذبيان ، عاجلوه فقاتلهم قبل رجوع أسامة .

قال ربيعة الأسدي: قدمت وفود أسد وغطفان وهوازن وطيئ فعرضوا الصلاة على أن يعفوا من الزكاة ، واجتمع جماعة من المسلمين على قبول ذلك منهم ، فأتوا أبا بكر فأبى إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ، وأجلهم يوما وليلة ، فتطايروا إلى عشائرهم .

قال الشعبي: قال أبو بكر لعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وأمثالهم: أترون ذلك - يعني قبول الصلاة منهم دون الزكاة - قالوا: نعم [ ص: 75 ] حتى تسكن الناس وترجع الجنود ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ، وقال: لو منعوني عقالا مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قبلت منهم ألا برئت الذمة من رجل من هؤلاء الوفود وجد بعد يومه وليلته ، فتواثبوا يتخطون رقاب الناس ، ثم أمر عليا رضي الله عنه بالقيام على نقب من أنقاب المدينة ، وأمر الزبير بالقيام على نقب ، وأمر طلحة بالقيام على نقب آخر ، وأمر عبد الله بن مسعود بالعسيس بالليل وجد في أمره وقام على رجل .

وقال إبراهيم النخعي: أول ما ولي أبو بكر ولى عمر القضاء وأمر ابن مسعود بعسس المدينة .

قال علماء السير: وجاء المشركون فطرقوا المدينة بعد ثلاث ، فوافقوا أنقاب المدينة محروسة [فبهتوهم] ، وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النواضح إليهم ، فانقش العدو فاتبعهم المسلمون فإذا للمشركين ردء بأنحاء قد نفخوها ، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل ، فنفرت بالمسلمين [وهم عليها] حتى دخلت بهم المدينة ، [فلم يصرع مسلم ولم يصب] .

وبات أبو بكر ليلتئذ يتهيأ ، فعبى الناس ، وخرج على تعبيته في آخر الناس يمشي ، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن ، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن ، وعلى الساقة سويد بن مقرن [معه الركاب] ، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد ، فما سمعوا للمسلمين حسا حتى وضعوا فيهم السيوف ، فما ذر قرن الشمس حتى ولى المشركون الأدبار . واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة ، ونزل بها النعمان بن مقرن في عدد ، ورجع إلى المدينة فدك بها المشركون ، فوثب بنو ذبيان وعبس على من كان فيهم من المسلمين ، فقتلوهم . [ ص: 76 ]

وقدم أسامة بعد أن غاب شهرين وأياما ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة ، وقال له ولجنده: أريحوا وارعوا ظهوركم .

ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة ، والذين كانوا على الأنقاب ، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك ، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام ، ومقامك أشد على العدو ، فابعث رجلا ، فإن أصيب أمرت آخر ، فقال:

والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي ، فخرج في تعبيته إلى ذي القصة ، فنزلها وهي على بريد من المدينة فقطع فيها الجنود .

فلما أراح أسامة وجنده ظهرهم وحموا قطع أبو بكر البعوث ، وبلغ عقد الألوية ، أحد عشر لواء على أحد عشر جندا ، وأمر أمير كل جند باستنفار من مر به من المسلمين من أهل القوة ، فعقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد ، فإذا فرغ منه سار إلى مالك بن نويرة ، وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة ، وللمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ، ومعونة الأبناء على قيس بن المكشوح ، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت . ولخالد بن سعيد بن العاص إلى الشام ، ولعمرو بن العاص إلى قضاعة ووديعة والحارث ، وما زال يعين لكل أمير قوما يقصدهم .

وقال ابن إسحاق: ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامة العرب ، فأشار الناس على أبي بكر رضي الله عنه بالكف عنهم ، وأن يقبل منهم أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة ، وقالوا:

نخاف أن تلج العرب كلها في الرجوع عن الإسلام ، فقال: والله لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه ، ووالله لو كان الناس كلهم كذلك لقاتلتهم بنفسي حتى تذهب أو يكون الدين لله .

قال عمر بن الخطاب: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أنا ولا غيري إلا وقد داخله فشل وطابت نفسه على ترك الزكاة لمن منعها غير أبي بكر ، فوالله ما هو إلا أن رأيت ما شرح الله صدر أبي بكر من القيام بأمر الله ، فعرفت أنه الحق . [ ص: 77 ]

وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث الزبرقان بن بدر السعدي على صدقات قومه بني سعد بن زيد مناة ، وبعث مالك بن نويرة الحنظلي على صدقات بني حنظلة ، وبعث عدي بن حاتم على صدقات طيئ ، فبلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانوا قبضوا الصدقات .

فأما مالك بن نويرة فإنه ردها إلى قومه ، وأما عدي والزبرقان فإن قومهما سألوهما أن يرداها عليهم فأبيا وقالا: لا نرى إلا أنه سيقوم بهذا الأمر قائم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن كان ذلك دفعناها إليه ، وإن كان غير ذلك فأموالكم في أيديكم . فأمسكا الصدقة حتى قدما بها على أبي بكر ، فلم يزل لهما بذلك شرف على من سواهما من أهل نجد ، وكانت [تلك] الصدقة مما قوي بها أبو بكر على قتال أهل الردة .

فلما أراد أن يتجهز لحرب أهل الردة خرج بالناس حتى نزل بذي القصة ، فعبأ هنالك جنوده ، فبعث خالد بن الوليد في المهاجرين والأنصار ، وجعل ثابت بن قيس على الأنصار وأمره إلى خالد ، وأمره أن يصمد لطليحة وعيينة ، وكانا على بزاخة وهي ماء من مياه بني أسد ، فسار خالد حتى إذا دنا من القوم بعث عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم طليعة ، فقدما وكان طليحة وأخوه مسلمة قد خرجا ليستخبرا ، فإذا هما بعكاشة وثابت ، فقتلاهما ، فلما مر بهما خالد مقتولين اشتد ذلك على المسلمين ، وقالوا: سيدان من سادات المسلمين وفرسانهم .

فمال خالد إلى طيئ فاستعان بهم على الحرب ، فسار حتى أتى بزاخة ، وبها عيينة في بني فزارة وطليحة في بني أسد ، وكانت بنو عامر في ناحية ينتظرون الدبرة على من تكون ، وكان طليحة متلففا في كساء له قد غطى وجهه ليجيئه الوحي زعم ، وعيينة في الحرب ، فكان إذا أضجرته الحرب جاء إلى طليحة فيقول: هل جاءك جبريل؟

فيقول: لا ، إلى أن قال عيينة: يا بني فزارة ، إن هذا كذاب فاجتنبوه ، فتفرقوا عنه ، فقال:

له قومه: ما تأمرنا ، فقال طليحة: اصنعوا مثل ما أصنع ، ثم جال في متن فرسه ، وحمل امرأته ثم مضى هاربا إلى الشام ، فشد خالد بمن معه على بني فزارة فقتل من قتل منهم ، وأخذ عيينة أسيرا ، ثم كر على بني عامر ففضهم ، وأخذ قرة بن هبيرة أسيرا ، فأوثقه مع [ ص: 78 ] عيينة ، ثم بعث بهما إلى أبي بكر ، ومضى طليحة وأصحابه إلى الشام فأصابهم في طريقهم عطش شديد ، فقالوا: يا عامر ، هلكنا عطشا فما بقي من كهانتك ، فقال لرجل منهم: يا محراق اركب فرسا ويبالا ، ثم شن عليه إقبالا ، فإنك سترى فارات طوالا ، ثم تجد عندها حلالا .

فركب مخراق فرأى الفارات وعندها عين ، فشربوا وسقوا دوابهم ، ثم مضى إلى الشام ، فلما علم من هناك من المسلمين بطليحة أخذوه فأوثقوه ثم وجهوا به إلى أبي بكر ، فتوفي أبو بكر وطليحة في الطريق ، فقدم به على عمر فأسلم وحسن إسلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية