صفحة جزء
ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

قد ذكرنا أن عمر أول ما ولي ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الفجر ، من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضي الله عنه ، ثم أصبح فبايع الناس ، وعاد فندب الناس [إلى فارس] ، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم [ ص: 145 ] وأثقلها عليهم ، لشدة سلطانهم [وشوكتهم] وقهرهم الأمم .

فلما كان اليوم الرابع ، عاد فندب الناس إلى العراق ، فقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك ، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فإنه قال: ليظهره على الدين كله ، والله مظهر دينه ، ومعز ناصره ، ومولي أهله مواريث الأمم . أين عباد الله الصالحون .

وكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ، ثم ثنى سعد بن عبيد ويقال: سليط بن قيس - وتكلم المثنى بن حارثة ، فقال: أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه ، فإنا قد تبحبحنا ريف فارس ، وغلبناهم على خير السواد ، وشاطرناهم ونلنا منهم ، ولها إن شاء الله ما بعدها .

فلما اجتمع البعث قيل لعمر: أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار ، فقال: لا والله لا أفعل ، إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو ، فإذا كرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من أجاب ، لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا .

وانتخب عمر ألف رجل ، ثم دعا أبا عبيدة فأمره على الخيل ، ثم قال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشركهم في الأمر ، فإن الحرب لا يصلحها إلا الرجل الذي يعرف الفرصة والكف ، فقال أبو عبيد: أنا لها ، فكان أول بعث بعثه عمر بعث أبي عبيد ، ثم بعث يعلى بن أمية إلى اليمن ، وأمره بإجلاء أهل نجران ، لوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه بذلك ، ولوصية أبي بكر رضي الله عنه بذلك في مرضه .

ثم ندب أهل الردة فأقبلوا سراعا من كل أوب فرمى بهم الشام والعراق ، وكتب إلى أهل اليرموك بأن عليكم أبا عبيد ، وكان أول فتح أتاه اليرموك . [ ص: 146 ]

[خبر النمارق]

فخرج أبو عبيد ، ومعه سعد بن عبيد ، وسليط بن قيس ، والمثنى بن حارثة ، فقدم أبو عبيد والرأس شيري ، والعدل بين الناس بوران - فإنها كانت تصلح الأمور ، وهو الوالي حينئذ ، فقدم المثنى الحيرة من المدينة في عشر ، ولحقه أبو عبيد بعد شهر ، وكان أهل فارس قد جعلوا الحرب على رستم وتوجوه ، فبعث إلى دهاقين السودان أن يثوروا بالمسلمين ، وبعث جندا لمصادمة المثنى .

وخرج أبو عبيد ، فجعل المثنى على الخيل ، وعلى ميمنته والق بن جيدارة ، وعلى ميسرته عمرو بن الهيثم ، واقتتلوا ، فهزم الله أهل فارس ، وأسر جابان ، وكان الأمير من قبل رستم ، فخدع الذي أسره بشيء فخلى [عنه] ، فأخذه المسلمون فأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه الملك ، وأشاروا بقتله ، فقال: إني أخاف الله أن أقتله وقد آمنه مسلم .

[السقاطية بكسكر]

ولما انهزمت فارس [أخذوا] نحو كسكر ليلحقوا نرسي - وهو ابن خالة كسرى - وكانت كسكر قطيعة له ، نادى أبو عبيد بالرحيل ، وقال للمجردة: اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسي ، أو تبيدوهم [فيما بين النمارق إلى بارق إلى درتا] .

ومضى أبو عبيد حتى نزل على نرسي بكسكر ، وعلى مجنبة نرسي ابنا خال كسرى بندويه وتيرويه ، وقد أتى الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان ، فعاجل أبو عبيد ، فالتقوا أسفل كسكر ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وهزم الله فارس ، وهرب نرسي وغلب على [ ص: 147 ] عسكره ، وأخرب أبو عبيد ما كان حول معسكرهم من كسكر ، وجمع الغنائم ، وأخذ خزائن نرسي . وأقام أبو عبيد ، وسرح المثنى إلى باروسما ، وبعث والقا إلى الزوابي ، وعاصما إلى نهر جوبر ، فهزموا من كان تجمع ، وأخربوا وسبوا ، وكان مما أخرب المثنى وسبى أهل زندورد . وجاءوا إلى أبي عبيد بطعام أكرموه به ، فقال: أكرمتم الجند كلهم بمثل هذا؟ قالوا: لا ، قال: بئس المرء أبو عبيد ، إن صحب قوما فاستأثر عليهم ، لا والله لا نأكل إلا مثل ما يأكل أوساطهم .

[وقعة القرقس]

ثم جاء بهمن جاذويه ومعه راية كسرى والفيل ، فقال لأبي عبيد: إما أن تعبروا إلينا ، وإما أن تدعونا نعبر إليكم ، فقال الناس: لا تعبر أبا عبيد ، فقال: لا يكونوا أجرأ على الموت منا ، بل نعبر ، فعبروا إليهم واقتتلوا - وأبو عبيد فيما بين التسعة والعشرة - وكانت الخيول إذا نظرت إلى الفيلة عليها الحلية والخيل عليها التجافيف لم تقدم خيولهم ، وإذا حملوا على المسلمين فرقوهم ورموهم بالنشاب .

فترجل أبو عبيد والناس ، ثم قال للناس: أقصدوا الفيلة ، وواثب هو الفيل الأبيض ، فتعلق ببطانه فقطعه ، وفعل القوم مثل ذلك ، فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله ، وقتلوا أصحابه ، وقتل من المشركين ستة آلاف في المعركة ، ولم ينتظروا غير الهزيمة ، فأهوى أبو عبيد ، فنفخ مشفر الفيل بالسيف ، فخبطه الفيل .

وكان أبو عبيد لما رأى الفيل ، قال: ما هذا؟ ولم يكن رآه قط ، فقالوا: هذا الفيل ، فارتجز وقال:


يا لك من ذي أربع ما أكبرك . يا لك من يوم وغى ما أمكنك



[ ص: 148 ]

إني لعال بالحسام مشفرك     وهالك وفي الهلاك لي درك

ثم ضربه على خرطومه فقطعه ووقع عليه الفيل فقتله . فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل ضعفت نفوسهم ، ثم حاربوا الفيل حتى تنحى عنه فاجتروه إلى المسلمين ، وجال المسلمون ، فركبهم أهل فارس ، وأخذ اللواء سبعة من المسلمين ، كلهم يقتل ، فبادر عبد الله بن مرثد الثقفي الجسر فقطعه وانتهى الناس إليه والسيوف تأخذهم ، فتهافتوا في الفرات ، فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين غريق وقتيل ، وهرب ألفان ، وبقي ثلاثة آلاف ، وحمى المثنى الناس وعاصم والكلج الضبي ومذعور ، حتى عقدوا الجسر وعبروهم ثم عبروا في آثارهم ، وخرج الحماة كلهم .

فبينما أهل فارس يحاولون العبور أتاهم الخبر أن الناس بالمدائن قد ثاروا برستم ، ونقضوا الذي بينهم وبينه وبلغ ، عمر الخبر فاشتد عليه ، وقال: لو أن أبا عبيد انحاز إلي لكنت له فئة . وقال للمنهزمين: أنا فئتكم .

وكان بين وقعة اليرموك والجسر أربعون ليلة ، فكانت اليرموك في جمادى الآخرة ، والجسر في شعبان

التالي السابق


الخدمات العلمية