صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر



قد ذكرنا أنه توفي في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا ، ونذكر من كبارهم من له خبر .

199 - أويس بن عامر بن جرير بن مالك القرني :

وقيل: هو أويس بن أنس ، وقيل: أويس بن الخليص . كان من الزهد على [ ص: 255 ] غاية ، كان يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها ويأكل بعضها ويتصدق ببعضها ، وعري حتى جلس في قوصره .

[أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، قال: أخبرنا أبو علي بن المذهب ، قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي قال: حدثني عبد الله بن عمر القواريري ، قال: حدثنا معاذ بن هشام ، قال: حدثني أبي ، عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ] ، عن أسير بن جابر ، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتت عليه أمداد أهل اليمن سألهم: هل فيكم أويس بن عامر بن مراد؟ حتى أتى على أويس ، فقال: أنت أويس بن عامر بن مراد؟ قال: نعم ، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ، قال: نعم ، قال: لك والدة؟ قال: نعم ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ، فاستغفر لي . فاستغفر له ، فقال عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة . فقال: ألا أكتب لك إلى عاملها فيستوصي بك ، فقال: لأن أكون في غبراء الناس أحب إلي ، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم ، فوافق عمر فسأله عن أويس كيف تركته؟ قال: تركته رث البيت ، قليل المتاع ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بر ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" .

فلما قدم الكوفة أتى أويسا ، فقال: استغفر لي ، فقال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح فاستغفر ، لقيت عمر؟ قال: نعم ، فاستغفر له . [ ص: 256 ]

ففطن له الناس فانطلق على وجهه ، قال أسير: وكسوته بردا ، فكان إذا رآه إنسان عليه قال: من أين لأويس هذا البرد .


[أخبرنا أحمد بن منصور الصوفي ، أخبرنا المعتمر بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن محمد الثعالبي ، أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي ، أخبرنا عمر بن أحمد بن عثمان ، حدثنا الحسين بن أحمد بن صدقة ، حدثنا أحمد بن أبي خيثمة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن الجريري ] ، عن أسير بن جابر : إن أويسا القرني كان إذا حدث يقع حديثه في قلوبنا موقعا لا يقع حديث غيره .

[أخبرنا محمد بن أبي القاسم ، أخبرنا محمد بن أحمد ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، حدثنا سعيد بن أسد بن موسى ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ] ، عن أصبغ بن زيد ، قال: كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع ، فيركع حتى يصبح ، وكان يقول إذا أمسى: هذه ليلة السجود ، فيسجد حتى يصبح ، وكان إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل والثياب ، ثم يقول: اللهم من مات جوعا فلا تؤاخذني به ، ومن مات عريانا فلا تؤاخذني به .

[أخبرنا محمد بن أبي القاسم ، أخبرنا حمد بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا زكريا بن يحيى بن حمويه ، حدثنا الهيثم بن عدي ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه] ، عن عبد الله بن سلمة ، قال: غزونا أذربيجان زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعنا أويس القرني ، فلما رجعنا مرض علينا فحملنا فلم يستمسك فمات ، فنزلت فإذا قبر محفور ، وماء مسكوب ، [ ص: 257 ] وكفن وحنوط ، فغسلناه ، وكفناه ، وصلينا عليه ، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره ، فرجعنا فإذا لا قبر ولا أثر .

وقد روي أنه عاش بعد ذلك طويلا حتى قتل مع علي رضي الله عنه يوم صفين .

[والأول أثبت] .

200 - الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، أبو عبد الرحمن المخزومي القرشي :

أمه أسماء بنت مخرمة . لم يزل مقيما على كفره إلى يوم الفتح ، فدخل على أم هانئ فأجارته ، ثم لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم ، وشهد معه حنينا ، فأعطاه من غنائمها مائة من الإبل ، ثم لم يزل مقيما بمكة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فلما جاء كتاب أبي بكر يستنفر المسلمين إلى غزو الروم قدم المدينة ، ثم خرج غازيا إلى الشام ، فشهد قحل وأجنادين . وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

[أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي ، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد بن الحداد ، أخبرنا أحمد بن علي بن إبراهيم بن ميمون الحافظ ، أن الحاكم أبا أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الحافظ أخبره ، أخبرنا أبو يوسف محمد بن سفيان الصفار ، حدثنا سعيد بن رحمة بن نعيم الأصبحي ، قال: سمعت ابن المبارك ، عن الأسود بن شيبان السدوسي ] ، عن أبي نوفل بن أبي عقرب ، قال: خرج الحارث بن هشام من مكة فجزع أهل مكة جزعا شديدا ، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج يشيعه حتى إذا كان بأعلى البطحاء أو حيث شاء الله من ذلك ، فوقف ووقف الناس حوله يبكون ، فلما رأى جزع الناس ، قال: يا أيها الناس ، [إني] والله ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم ، ولا اختيار بلد على بلدكم ، ولكن كان الأمر فخرجت [ ص: 258 ] فيه رجال من قريش ، والله ما كانوا من ذوي أنسابها ولا في بيوتاتها ، فأصبحنا ولو أن جبال مكة ذهب فأنفقناها في سبيل الله ما أدركنا يوما من أيامهم ، والله لئن فاتونا به في الدنيا لنلتمسن أن نشاركهم في الآخرة ، فاتقى الله امرؤ فتوجه غازيا إلى الشام ، واتبعه ثقله ، فأصيب شهيدا .

وفي رواية: إنه مات في طاعون عمواس من هذه السنة .

201 - سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ، أبو زيد :

كان من أشراف قومه ، والمنظور إليه منهم ، شهد مع المشركين بدرا ، فأسره مالك بن الدخشم ، ثم إنه أفلت ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه ، وقال: "من وجده فليقتله" ، فوجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر به فربطت يده إلى عنقه ، ثم قرنه إلى راحلته ، فلم يركب حتى ورد المدينة ، ثم قدم في فدائه مكرز بن حفص ، فبذل أربعة آلاف ، فقالوا: هات المال ، قال: نعم ، اجعلوني في مكانه رهنا حتى يرسل إليكم ، فخلي سبيل سهيل ، وحبسوا مكرزا ، فبعث سهيل بالمال .

وسهيل هو الذي خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ، وكتب القضية على أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك العام ، ويعود من قابل ، فأقام على دينه إلى زمان الفتح .

[أخبرنا محمد بن أبي طاهر ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا أحمد بن معروف ، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا محمد بن عمر ، قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ] ، عن أبيه ، قال: قال سهيل بن عمرو : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة اقتحمت بيتي وغلقت علي بابي ، وأرسلت إلى ابني عبد الله -وكان عبد الله قد أسلم وشهد بدرا-: اطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن

[ ص: 259 ]

أقتل ، فذهب عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله ، أبي تؤمنه ، فقال: "نعم هو آمن بأمان الله عز وجل فليظهر" . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله: "من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه ، فلعمري أن سهيلا له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الإسلام" ، فخرج عبد الله بن سهيل إلى أبيه فخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال سهيل: كان -والله- برا صغيرا وكبيرا ، فكان سهيل يقبل ويدبر آمنا ،
وخرج إلى حنين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل .

[قال محمد بن عمر: حدثني] ابن قماذين ، قال: لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة أكثر صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا أقبل على ما يعينه من أمر الآخرة من سهيل بن عمرو ، حتى إن كان لقد شحب وتغير لونه ، وكان يكثر البكاء رقيقا عند سماع القرآن .

ولقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل يقرئه [القرآن] وهو بمكة حتى خرج معاذ من مكة ، وحتى قال له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد ، يختلف إلي هذا الخزرجي يقرئك القرآن ، ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك ، فقال: يا ضرار ، إن هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كل السبق ، إني لعمري أختلف إليه ، فقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ، ورفع أقواما بالإسلام كانوا في الجاهلية كانوا لا يذكرون ، فليتنا [كنا] مع أولئك فتقدمنا وإني لأذكر ما قسم الله لي في تقدم إسلام أهل بيتي الرجال والنساء ومولاي عمير بن عوف فأسر به وأحمد الله عليه ، وأرجو أن يكون الله ينفعني بدعائهم أن لا أكون مت أو قتلت على ما مات نظرائي أو قتلوا ، قد شهدت مواطن كلها أنا فيها معاند للحق: يوم بدر ، ويوم أحد ، والخندق . وأنا وليت أمر الكتاب يوم الحديبية ، يا ضرار إني لأذكر مراجعتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وما كنت ألظ به من الباطل ، فأستحي [ ص: 260 ] من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا بمكة وهو بالمدينة ، ولكن ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك .

ولقد رأيتني يوم بدر وأنا في حيز المشركين وأنا أنظر إلى ابني عبد الله ومولاي عمير بن عوف قد فرا مني فصارا في حيز محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما عمي علي يومئذ من الحق لما أنا فيه من الجهالة ، وما أرادهما الله به من الخير ، ثم قتل ابني عبد الله بن سهيل يوم اليمامة شهيدا ، فعزاني أبو بكر رضي الله عنه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الشهيد ليشفع [لسبعين] من أهل بيته" ، فأنا أرجو أن أكون أول من يشفع له .

[قال محمد بن عمر : وأخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن زياد بن مينا ، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري ] ، قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام ليالي أغزانا أبو بكر الصديق ، فسمعت سهيلا يقول: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول]: "مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله [عمره] في أهله" ، قال سهيل: وأنا أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة أبدا .

فلم يزل بالشام حتى مات في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة .

[أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، حدثنا عفان ، حدثنا جرير بن حازم ، قال: سمعت] الحسن قال: حضر باب عمر بن الخطاب سهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، وأبو سفيان بن حرب ، ونفر من تلك الرءوس ، وصهيب ، وبلال ، وتلك الموالي الذين شهدوا بدرا ، فخرج إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذن لهم وترك هؤلاء ، فقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط ، يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه لا يلتفت إلينا ، فقال سهيل بن عمرو -وكان رجلا عاقلا: أيها القوم ، إني -والله- قد أرى الذي في وجوهكم ، إن كنتم غضابا [ ص: 261 ] فاغضبوا على أنفسكم ، دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم ، أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مما لا ترون أشد عليكم قوة من بابكم هذا الذي تنافسونهم عليه . قال: ونفض ثوبه وانطلق .

قال الحسن: [و] صدق -والله- سهيل ، لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه

التالي السابق


الخدمات العلمية