صفحة جزء
[قال المصنف]: وقد روي لنا فتح نهاوند من طريق آخر:

[أنبأنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي ، قال:

أخبرنا أبو الفتح عبد الكريم بن محمد بن أحمد المحاملي ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان ، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، قال: حدثنا شعيب بن أيوب ، قال: حدثنا أبو يحيى الحماني ، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي ] ، عن الحسن ، قال: كانت عظماء الأعاجم من أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوهم ، فبلغ ذلك أهل الكوفة ففزعوا فيه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما قدموا عليه نادى في الناس: الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، ثم صعد المنبر ، فقال: أيها الناس ، إن الشيطان قد [ ص: 273 ] جمع جموعا ، فأقبل بها ليطفئوا نور الله ، ألا إن أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ، ويغزوكم في بلادكم فأشيروا علي . فقام طلحة فقال: أنت ولي هذا الأمر ، وقد أحكمت التجارب ، فادعنا نجب ومرنا نطع ، فأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ، ثم جلس . فقال عمر: تكلموا ، فقام عثمان فقال: أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون من شأمهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم ، وتسير أنت بنفسك من هذين الحرمين إلى هذين المصرين ، من أهل الكوفة والبصرة ، فتلقى جموع المشركين في جموع المسلمين .

ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إنك إن أشخصت أهل الشام سارت الروم إلى ذراريهم ، وإنك إن أشخصت أهل اليمن سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك متى شخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك الأرض من أقطارها حتى تكون ما تخلف خلفك من العورات أهم إليك مما بين يديك ، ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقون ، ففرقة تقيم في أهاليها ، وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة ، وأما ما ذكرت من كثرة القوم فإنا لم نكن نقاتلهم فيما خلا بالكثرة ولكنا نقاتلهم بالنصر . فقال عمر رضي الله عنه: صدقت يا أبا الحسن ، هذا رأي ولئن شخصت [من البلدة] لتنقضن علي الأرض من أقطارها ، وليمدنهم من لم يكن يمدهم ، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر ، قالوا: أنت أفضلنا رأيا ، قال: أشيروا علي به ، واجعلوه عراقيا ، قالوا: أنت أعلم بأهل العراق ، قال: لأولين ذلك الثغر رجلا يكون قتيلا في أول سنة ، قالوا: ومن هو؟ قال: النعمان بن مقرن ، ثم كتب إلى أهل البصرة بما أشار به علي رضي الله عنه ، ثم كتب إلى أهل الكوفة : إني استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني ، فإن قتل فعليكم حذيفة بن اليمان ، فإن قتل عليكم جرير بن عبد الله [البجلي] ، [ ص: 274 ] فإن قتل فعليكم المغيرة بن شعبة ، فإن قتل فعليكم الأشعث بن قيس .

وكتب إلى النعمان : أما بعد ، فإن معك في جندك عمرو بن معديكرب المذحجي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأحضرهما الناس ، وشاورهما في الحرب ، ولا تولهما عملا ، ثم دعا السائب بن الأقرع ، فدفع إليه الكتاب وقال: انطلق فاقرأ كتابي على الناس ، وانظر ذلك الجيش ، فإن الله أعزهم ونصرهم كنت أنت الذي تلي مغانمهم ومقاسمهم ، ولا ترفعن إلي باطلا ، ولا تنقص أحدا شيئا هو له ، وإن ذلك الجيش ذهب فاذهب في الأرض ، ولا أراك بواحدة من عيني ما بقيت أبدا ، فسار السائب حتى قدم الكوفة ، وبعث إلى أهل البصرة بكتابهم ، ففعلوا ما أراد ، وسار الناس وأقبلت الأعاجم بمجموعها حتى نزلوا نهاوند ، وسار النعمان بن مقرن بالناس حتى إذا كان ببعض الطريق بعث بكير بن شداخ الليثي وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأما بكير فرجع ، فقيل له: ما وراءك؟ قال: أرض الأعاجم وأنا بها جاهل ، فخشيت أن يؤخذ علي بمضايق الجبال ، ونفذ طليحة حتى علم الخبر ، وسار الناس حتى نزلوا نهاوند ، فأقاموا ثلاثة أيام ولياليهن ، فأجمعوا أنفسهم ودوابهم ، ثم غدوا يوم الأربعاء في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتلى في الفريقين والجراحات حتى حجز بينهم الليل ، فرجع الفريقان إلى معسكرهم ، فبات المسلمون يعصبون بالخرق ، وتوقد لهم النيران ، وبات المشركون في المعازف والخمور حتى أصبحوا ، [ثم غدوا يوم الخميس على البراذين وأقبية الديباج والسيوف المحلاة ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتلى في الفريقين والجراحات ، وحجز بينهم الليل فرجع الفريقان إلى معسكرهم ، فبات المسلمون يعصبون وتوقد لهم النيران ، وبات المشركون في المعازف والخمور] .

ثم غدوا يوم الجمعة فركب النعمان بن مقرن -وكان رجلا قصيرا آدم- فرسا أبيض ، وعليه قباء أبيض وعمامة بيضاء ، ورفعت الرايات ، ثم قال: أيها الناس ، إنكم باب بين العرب والعجم ، فإن كسر ذلك الباب دخل على المسلمين من ذلك أمر عظيم ، فليشغل كل رجل منكم قرينه ، ألا إني أهز الراية هزة فليتعاهد الرجل حزامه وسلاحه ، ثم إني هاز الثانية فلينظر الرجل إلى مصوب رمحه وموضع سلاحه [ ص: 275 ] ووجه مقاتله ، ثم إني هاز الثلاثة فمكبر فكبروا ، وحامل فاحملوا ، ومستنصر الله برحمته فاستنصروا الله ، فقال رجل: قد فهمنا ما أمرت أيها الأمير ، ونحن واقفون عند رأيك ، ومنتهون إلى أمرك ، وأي النهار تريد ، أوله أم آخره؟ فقال: لا أريد أوله ولكن أريد آخره ، فإن فيه تهب الرياح ، وينزل النصر من السماء لمواقيت الصلاة ، فلما زالت الشمس هز الراية فتعاهد الناس حزم دوابهم وخيولهم ، ثم مكث حتى مالت الشمس عن كبد السماء هزها الثانية وصلى بالناس ركعتين خفيفتين ، ثم وثب الرجال على متون الخيل ، فوضع كل رجل رمحه بين أذني فرسه ، وشدت الرجال مناطقها وأقبيتها على ظهورها ، وحسروا عن شمائلهم ، وأخذوا السيوف بأيمانهم ، ثم كبر الثالثة وهز الراية ، ثم صوبها كأنها جناح طائر ، ثم حمل وحمل المسلمون ، فكان النعمان أول قتيل ، وأتى عليه أخوه وهو قتيل ، فطرح عليه ثوبه لئلا يعرف ، ورفع الراية فإذا هي تنضح بالدماء ، وهزم الله العدو ، واتبعهم المسلمون ، فأتى السائب بن الأقرع بالغنائم مثل الآكام ، ثم أتاه دهقان ، فقال له: أنت السائب بن الأقرع؟ قال: نعم ، قال: أنت صاحب غنائم العرب؟ قال: نعم ، قال: فهل لك أن تؤمنني على دمي وعلى دم ذوي قرابتي وأدلك على كنز النخيرجان؟ قال: ويحك إنك تسألني الأمان على دماء قوم لا أدري لعلهم يكونون أمة كثيرة ولا أدري ما كنزك ، قال: هو كنز النخيرجان ، إنه كان له امرأة ينتابها العالم ، وأن كسرى كان يختلف إليها يزورها ومعه وصائف عليهن المناطق المفضضة وأقبية الديباج ، وكان لكسرى تاج ياقوت ، وذلك التاج والحلي مدفون لم يطلع عليه غيري ، فانطلق حتى أدلك عليه ليكون لعمر لا حق فيه لأحد؛ لأنه دفن دفنوه ولم يجلبوا عليه في الحرب ، فأخذ السائب المعول ثم خرج ، فانطلق بهم حتى أدخلهم قلعة ، فإذا هم بصخرة ، فقال: اقلعوها فقلعوها فإذا تحتها سفطان ففتحهما ، فرأى فيهما السائب شيئا لم ير مثله ، وخواتيم من ذهب . قال السائب: فكتمته الناس ، وأسرعت به السير إلى عمر حتى قدمت به عليه ، فلما رآني ناداني من بعيد: ويحك ما وراءك ، فوالله ما بت هذه الليلة ، وما أتت ليلة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت أعظم علي منها . قال السائب: فقلت: أبشر بفتح الله ونصره ، التقينا بنهاوند ، وقص عليه القصة إلى قتل النعمان .

[فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون ، يرحم الله النعمان ، يرحم الله النعمان ، يرحم الله [ ص: 276 ] النعمان] قلت: يا أمير المؤمنين: ما قتل بعده رجل فعرف وجهه ، فقال: هؤلاء الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ، وما معرفة عمر ، وما معرفة عمر لكن الله يعرفهم ، الذي رزقهم الشهادة ، وساقهم إليها فهو خير لهم من معرفة عمر ، ثم وضع يده على صدره ، فبكى طويلا ثم أقبل إلي ، فقال: أعطيت أبشارهم أم دفنتموهم ، فقلت: لا بل دفناهم ، تم قام عمر فأخذت بثوبه فقلت . إن لي إليك حاجة ، قال: وما حاجتك؟ فجلس فأريته ذلك ، وأخبرته خبر الدهقان فدعا عليا ، وابن مسعود ، وعبد الله بن أرقم صاحب الخزانة ، فقال: ضعوا على هذه خواتيمكم ، ووضع خاتمه ثم قال لعبد الله بن أرقم: ارفع هذا عندك ، ثم انصرف السائب حتى قدم الكوفة ، فأتاه بريد عمر [يدعوه] مستعجلا ، فأتاه ، فلما رآه ناداه قبل أن يصل إليه: أخبرني خبر السفطين ، فقال: والله لئن رددت عليك حديثهما فزدت حرفا أو نقصت حرفا لأكذبتك ، قال: ويحك ، إنه لما فارقتني وأخذت مضجعي من الليل لمنامي أتاني ملائكة فأوقدوا سفطيك على جمرة ، ثم جعلوا يدفعونها في نحري ، وأنا أنكب وأعاهد الله لأردنهما على ما أفاء الله عليه ، وكاد ابن الخطاب يحترق بالنار ، فانطلق بهذين السفطين فضعهما في مسجد الكوفة ، فإن وجدت بهما عطاء المقاتلة والذرية فبعهما واقسمهما على ما أفاء الله عليه ، فإن لم تجد بهما إلا نصف عطاء المقاتلة والذرية فبعهما .

فوضعتهما في مسجد الكوفة ، فمر بنا عمرو بن حريث فاشتراهما بعطاء المقاتلة والذرية ، فباع أحد السفطين من أهل الحيرة ، ثم اشتراهما به ، وبقي الآخر ربحا ، وكان أول قريش عقد بالكوفة مالا .

[أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي ، قال: حدثنا أبو طاهر أحمد بن الحسين بن أحمد ، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان ، قال: أخبرنا دعلج بن أحمد ، قال: أخبرنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال: حدثنا سعد بن منصور ، قال: حدثنا شهر بن حوشب ، عن الحجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، قال: حدثني شقيق بن سلمة الأسدي ، عن الرسول الذي جرى بين عمر وسلمة بن قيس الأشجعي] ، قال: [ ص: 277 ]

ندب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس مع سلمة بن قيس الأشجعي بالحرة إلى بعض أهل فارس ، فقال: انطلقوا [بسم الله و] في سبيل الله تقاتلون من كفر بالله ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا [هرما] ، وإذا انتهيت إلى القوم فادعهم إلى الإسلام ، فإن قبلوا فاقبل منهم وأعلمهم أنه لا نصيب لهم في الفيء ، فإن أبوا فادعهم إلى الجزية ، فإن قبلوا فضع عليهم بقدر طاقتهم ، وضع فيهم جيشا يقاتل من وراءهم ، وخلهم وما وضعته عليهم ، فإن أبوا فقاتلهم ، وإن دعوكم إلى أن تعطوهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة محمد ، ولكن أعطوهم ذمة أنفسكم ، ثم وفوا لهم ، فإن أبوا عليكم فقاتلوهم ، فإن الله ناصركم عليهم .

فلما قدمنا البلاد دعوناهم إلى كل ما أمرنا به ، فأبوا ، فلما مسهم الحصر نادوا:

أعطونا ذمة الله وذمة محمد ، فقلنا: لا ، ولكن نعطيكم ذمة أنفسنا ثم نفي لكم ، فأبوا فقاتلناهم فأصيب رجل من المسلمين ، ثم إن الله فتح علينا فملأ المسلمون أيديهم من متاع ورقيق ورفه ما شاءوا ، ثم إن سلمة بن قيس أمير القوم دخل ، فجعل يتخطى بيوت نارهم ، فإذا سفطين معلقين بأعلى البيت ، فقال: ما هذان السفطان ، فقالوا: شيء كانت تعظم بها الملوك بيوت نارهم ، قال: أهبطوهما إلي ، فإذا عليهما طوابع الملوك بعد الملوك ، قال: ما أحسبهم طبعوا إلا على أمر نفيس ، علي بالمسلمين ، فلما جاءوا أخبرهم خبر السفطين ، فقال: أردت أن أفضهما بمحضر منكم ، ففضهما فإذ هما مملوءان جوهرا لم ير مثله -أو قال: لم أر مثله- فأقبل بوجهه على المسلمين ، فقال: يا معشر المسلمين قد علمتم ما أبلاكم الله في وجهكم هذا ، فهل لكم أن تطيبوا بهذين السفطين أنفسا لأمير المؤمنين لحوائجه وأموره وما ينتابه ، فأجابوه بصوت رجل واحد: إنا نشهد الله أنا قد قبلنا وطابت أنفسنا لأمير المؤمنين ، فدعاني فقال: قد عهدت أمير المؤمنين يوم الحرة وما أوصانا به وما اتبعنا من وصيته ، وأمر السفطين وطيب أنفس المسلمين له بهما ، فقد علمت به ، فامض بهما إليه ، واصدقه الخبر ثم ارجع إلي بما يقول لك ، فقلت ما لي بد من صاحب ، فقال: خذ بيدك من أحببت ، فأخذت بيد رجل من القوم وانطلقنا [ ص: 278 ] بالسفطين حتى قدمنا بهما المدينة ، فأجلست صاحبي مع السفطين وانطلقت في طلب أمير المؤمنين عمر ، فإذا به يغدي الناس وهو يتوكأ على عكاز وهو يقول: يا برقي ضع ها هنا . فجلست في عرض القوم لا آكل شيئا ، فمر بي فقال: ألا تصيب من الطعام ، فقلت: لا حاجة لي إليه ، فرآني الناس وهو قائم يدور فيهم فقال: يا برقي خذ خوانك وقصاعك ، ثم أدبر فاتبعته فجعل يتخلل طرق المدينة حتى انتهى إلى دار قوراء عظيمة ، فدخلها فدخلت في أثره ، ثم انتهى إلى حجرة من الدار فدخلها فقمت مليا حتى ظننت أن أمير المؤمنين قد تمكن من مجلسه ، فقلت: السلام عليك ، فقال: وعليك السلام ، ادخل ، فدخلت فإذا هو جالس على وسادة [مرتفقا أخرى ، فلما رآني نبذ إلي التي كان مرتفقا ، فجلست عليها] فإذا هي تعرى ، وإذا حشوها ليف ، قال: يا جارية أطعمينا ، فجاءت بقصعة فيها قدر من خبز يابس ، فصب عليها زيتا ما فيه ملح ولا خل ، فقال: أما إنها لو كانت راضية لأطعمتنا أطيب من هذا ، فقال لي: ادن ، فدنوت ، قال: فذهبت أتناول منها قدره ، فلا والله لا أستطيع أن أجيزها ، فجعلت ألوكها مرة من ذا الجانب ، ومرة من ذا الجانب فلم أقدر على أن أسيغها ، وأكل هو أحسن الناس أكلا لم يتعلق له طعام بثوب أو شعر ، حتى رأيته يلطع جوانب القصعة ، ثم قال: يا جارية اسقنا ، فجاءت بسويق سلت ، فقال: أعطه ، فناولتنيه ، فجعلت إذا أنا حركته ثار له غبار ، فلما رآني قد بشعت ضحك ، فقال: ما لك ، أرنيه إن شئت ، فناولته ، فشرب حتى وضع على جبهته هكذا ، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا فأروانا وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قلت:

قد أكل أمير المؤمنين فشبع فروي ، حاجتي -جعلني الله فداك- قال: لله أبوك ، فمن أنت؟ قلت: رسول سلمة بن قيس ، قال: فبالله ، لكأنما خرجت من بطنه تخففا علي وحبا ، ثم قال: لتخبرني عن من جئت من هذه ، وجعل يقول وهو يزحف إلي: لله أبوك ، كيف تركت سلمة بن قيس؟ كيف المسلمون؟ ما صنعتم؟ كيف حالكم؟

قلت: ما تحب يا أمير المؤمنين ، وقصصت عليه الخبر على أنهم ناصبونا القتال ، فأصيب رجل من المسلمين ، فاسترجع وبلغ منه ما شاء الله ، وترحم عليه -أعني على الرجل- طويلا ، قلت: ثم إن الله فتح علينا يا أمير المؤمنين ، فتحا عظيما ، فملأ

[ ص: 279 ]

المسلمون أيديهم من متاع ورقيق ورفه ما شاءوا ، قال: ويحك ، كيف اللحم بها؛ فإنها شجرة العرب لا تصلح العرب إلا بشجرتها ، قلت: الشاة بدرهمين ، فقال: الله أكبر ، ثم قال: ويحك هل أصيب من المسلمين غير ذلك الرجل؟ قلت: لا ، قال: ما يسرني ، إنما يسركم أضعف لكم ، وإنه أصيب من المسلمين رجل آخر .

قال: وجئت إلى ذكر السفطين فأخبرته خبرهما ، فبالله الذي لا إله إلا هو لكأنما أرسلت عليه الأفاعي والأساود والأراقم ، ثم أقبل علي [بوجهه] آخذا بحقويه ، وقال: لله أبوك وعلى ما يكونان لعمر ، والله ليستقبلن المسلمون الظمأ والجوع في نحور العدو ، وعمر يغدو بين أهله ويروح إليهم يتبع إماء المدينة ، ارجع بما جئت به فلا حاجة لي فيه ، فقلت: يا أمير المؤمنين ، إنه أبدع بي وبصاحبي ، فاحملنا ، فقال: لا ، ولا كرامة للآخر ، ما جئت بما أسر به فأحملك ، قلت: يا لعباد الله أيترك رجل بين أرضين ، قال: أما لولا أن قلتها [قلت] يا برقي انطلق به فاحمله وصاحبه على ناقتين ظهيرتين من إبل الصدقة ثم انخس بهما حتى تخرجهما من الحرة ، ثم التفت إلي فقال: أما لئن شتا المسلمون في مشتاهم قبل أن يقتسما بينهم لأعذرن منك ومن صويحبك ، ثم قال: إذا انتهيت إلى البلاد فانظر أحوج من ترى من المسلمين فادفع إليه الناقتين .

ثم خرجنا من عند عمر ، وسرنا حتى آتينا سلمة بن قيس ، فأخبرناه الخبر ، فقال: ادع لي المسلمين ، فلما جاءوا قال لهم: إن أمير المؤمنين قد وفر عليكم سفطيكم ، ورآكم أحق بهما منه ، فاقتسموا على بركة الله ، فقالوا: أصلحك الله أيها الأمير ، إنه ينبغي لهما نظر وتقويم وقسمة . فقال: والله لا تبرحون وأنتم تطالبوني منها بحجر واحد . فعد القوم وعد الحجارة ، فربما طرحوا إلى الرجل الحجرين ، وفلقوا الحجر بين اثنين . [ ص: 280 ]

[أنبأنا محمد بن الحسين ، وإسماعيل بن أحمد ، قالا: أخبرنا ابن النقور ، أخبرنا المخلص ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا السري بن يحيى ، حدثنا شعيب ، حدثنا سيف ، عن عمرو بن محمد ] ، عن الشعبي ، قال: لما قدم بغنائم نهاوند على عمر بكى ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ليس هذا مكان حزن [ولا بكاء] ، ولكن بشرى ، فافرح واحمد الله ، فقال: ويحك يا ابن عوف ، والله ما كثرت الصفراء والبيضاء في قوم قط إلا فتنوا فتقاتلوا وتدابروا حتى يدمر الله عليهم .

قال: وجعل أبو لؤلؤة لا يلقى من السبي صغيرا إلا مسح رأسه وبكى ، وقال: أكل عمر كبدي ، ولا يلقى أيضا كبيرا إلا بكى إليه وأسعده ، وكان نهاونديا فأسرته الروم أيام فارس .

وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة . وقد ذكر أبو معشر أن فتح جلولاء وقيسارية كان في سنة تسع عشرة . قال: وكان الأمير على فتح قيسارية معاوية بن أبي سفيان .

وذكر ابن إسحاق أن فتح الحيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين كان في سنة تسع عشرة

التالي السابق


الخدمات العلمية