صفحة جزء
260 - سلمان الفارسي ، يكنى أبا عبد الله:

من أهل مدينة أصبهان . ويقال: من أهل رامهرمز ، أسلم في السنة الأولى من الهجرة ، وأول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وإنما منعه من حضور ما قبل ذلك أنه كان مسترقا لقوم من اليهود فكاتبوه وأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابته وعتق ، ولم يزل بالمدينة حتى غزا المسلمون العراق فخرج معهم وحضر فتح المدائن ، وولاه إياها عمر ، فنزلها حتى مات بها ، وقبره الآن ظاهر .

أخبرنا هبة الله بن الحصين ، قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثنا يعقوب ، عن ابن إسحاق ، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن محمود بن لبيد ، عن عبد الله بن عباس ، قال: حدثني سلمان الفارسي ، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها ، لا يتركها تخبو ساعة .

قال: وكان لأبي ضيعة عظيمة ، قال: فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي: يا بني إني قد شغلت ببنائي هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب فاطلعها ، وأمرني فيها ببعض ما يريد ، فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون . [ ص: 21 ]

قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من [الدين] الذي نحن عليه ، فو الله ما تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها ، فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام . قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، قال: فلما جئته قال: أي بني ، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبة ، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال: أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه . قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا .

قال: فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته . قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم ، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجارا من النصارى فأخبروني بهم ، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم . قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم [أخبروني بهم] فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت: من أفضل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة . قال: فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك . قال: فدخلت معه . قال: وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا إليه منها شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين ، حتى جمع سبع قلال من ذهب [وورق] قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها [ ص: 22 ] لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا . قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه ، قالوا: فدلنا عليه . قال: فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا . قال: فصلبوه ثم رجموه بالحجارة .

ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه [ولا] أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ولا نهارا منه .

قال: فأحببته حبا لم أحبه أحدا من قبله ، فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة ، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه أحدا من قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا ، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه ، فالحق به .

قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له: يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره . قال: فقال لي: أقم عندي .

قال: فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان ، إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك ، وقد حضرك من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني ، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان فالحق به .

قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين ، فجئت فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي . قال: فأقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل ، فو الله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضره قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي إليك فإلى من توصي بي ، وما تأمرني؟ قال: أي بني ، والله ما [ ص: 23 ] أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية ، فإنه على مثل ما نحن عليه ، فإن أحببت فأته فإنه على أمرنا .

قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري ، فقال: أقم عندي ، فأقمت عند رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ، قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل ، فلما احتضر قلت له: يا فلان ، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ، وأوصى بي فلان إلى فلان ، وأوصاني فلان إليك ، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال: أي بني ، والله ما أعلم أنه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .

قال: ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، ثم مر بي نفر من كلب تجارا ، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه؟ قالوا: نعم ، فأعطيتموها وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل من يهود ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي .

فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له بالمدينة من بني قريظة فابتاعني منه ، فاحتملني إلى المدينة ، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق . ثم هاجر إلى المدينة ، فو الله إني لفي رأس غدق لسيدي أعمل فيه بعض العمل ، وسيدي جالس ، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال له فلان: قاتل الله بني قيلة ، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي . قال: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، ونزلت من النخلة فجعلت أقول [ ص: 24 ] لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيدي ، فلكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا أقبل على عملك ، قلت: لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال .

وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم . قال: فقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كلوا" ، وأمسك يده فلم يأكل . قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا ، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه . قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان .

قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ثم استدبرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي ، [فأتيته وهو جالس] ، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، قال: فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحول" فتحولت ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه - ثم
شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا .

قال: ثم قال: "كاتب يا سلمان" فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أعينوا أخاكم" . فأعانوني بالنخل ، الرجل بثلاثين ودية ، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة والرجل بعشرة ، يعين الرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي" .

أقال: ففقرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فو الذي نفس [ ص: 25 ] سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي علي المال . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن ، فقال: "ما فعل الفارسي المكاتب؟ " قال: فدعيت له فقال: "خذ هذه فأدبها ما عليك يا سلمان" قال: قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك" .

قال: فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم وعتقت . فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ، ثم لم يفتني [معه] مشهد
.

أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك ، قال: أخبرنا عاصم بن الحسن ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء ، قال: حدثنا الفضل بن غانم ، قال: حدثني سلمة ، قال: حدثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن رجل من عبد القيس ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ، [أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ثم قال: "خذها فأوفهم منها" ، فأوفيتهم منها حقهم] . وفي الصحيح عن سلمان أنه قال: تداولني بضعة عشر من رب إلى رب لي كله أربعين أوقية .

وروى أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سلمان سابق الفرس " .

ولما خط الخندق قطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان ، وكان رجلا قويا ، فقال المهاجرون: سلمان منا ، وقالت الأنصار : لا بل منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت " .

قال الحسن البصري: كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، وكان أميرا على زهاء ثلاثين ألفا من المسلمين ، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها ، [ ص: 26 ] فإذا خرج عطاؤه أمضاه ، ويأكل من سفيف يديه .

وقال عبادة بن نسي: كان لسلمان خباء من عباء وهو أمير الناس .

أخبرنا محمد بن ناصر [أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، أخبرنا أبو بكر بن نجيب ، حدثنا أبو جعفر بن ذريح ، حدثنا هناد ، حدثنا وكيع ، عن جعفر بن برقان ، عن حبيب بن أبي مرزوق] ، عن ميمون بن مهران ، عن رجل من عبد القيس قال: رأيت سلمان في سرية هو أميرها ، على حمار عليه سراويل وقدماه تذبذبان ، والجند يقولون: قد جاء الأمير ، فقال سلمان: إنما الخير والشر بعد اليوم .

ذكر أولاد سلمان:

تزوج امرأة يقال لها بقيرة . وقال أبو بكر بن أبي داود: لسلمان ثلاث بنات ، بنت بأصبهان ، وابنتان بمصر .

ذكر وفاته:

أخبرنا محمد بن أبي منصور ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا البرمكي ، قال: أخبرنا أبو بكر بن بخيت ، قال: حدثنا أبو جعفر بن ذريح ، قال: حدثنا هناد ، قال: حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أشياخه ، قال: دخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده ، فبكى سلمان فقال سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ، وترد عليه الحوض ، قال: فقال سلمان رضي الله عنه: أما إني ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: "ليكن بلغة أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب" وحولي هذه الأساور . قال: وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة .

قال: فقال له سعد: يا أبا عبد الله ، [ ص: 27 ] اعهد إلينا بعهد نأخذه بعدك ، فقال: يا سعد ، اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا حكمت ، وعند يدك إذا قسمت . ولما اشتد مرض سلمان وكان قد أصاب صرة مسك يوم جلولاء ، فقال لأمرأته هاتها ، فمرسها في ماء ، ثم قال: انضحيها حولي ، فإنه يأتيني زوار الآن يجدون الريح ولا يأكلون الطعام ، فلم يمكث إلا قليلا حتى مات
.

عاش سلمان مائتين وخمسين سنة لا يشكون في هذا وبعضهم يقول: ثلاثمائة وخمسين .

وقيل إنه أدرك وحي عيسى عليه السلام ، والظاهر أنه توفي في زمان عثمان في سنة اثنتين وثلاثين ، وقد قيل في سنة ست وثلاثين ، فعلى هذا تكون وفاته في زمان علي رضي الله عنه ، والأول أصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية