صفحة جزء
وفي هذه السنة [خروج علي بن أبي طالب إلى صفين

] خرج علي رضي الله عنه فعسكر بالنخيلة ، وقدم عبد الله بن عباس ثم نهض معه [ ص: 101 ] من أهل البصرة إلى الكوفة ، فتهيأ منها إلى صفين ، واستشار الناس فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم ، وأشار آخرون بالسير [بنفسه] ، فأبى إلا المباشرة ، فجهز الناس ، فبلغ ذلك معاوية ، فدعا عمرو بن العاص فاستشاره وقال: يا أبا عبد الله جهز الناس . فجاء عمرو فحض الناس ، وضعف أمر علي ، وقال: إن أهل البصرة مخالفون لعلي ، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل ، وإنما سار في شرذمة قليلة ، فالله الله في حقكم أن تضيعوه .

وكتب إلى أجناد الشام ، وعقد لابنيه عبد الله ومحمد لواء ، ولواء لغلامه وردان ، [وعقد علي لغلامه] قنبر . [ثم قال عمرو:


هل يغنين وردان عني قنبرا وتغني السكون عني حميرا

إذا الكماة لبسوا السنورا] فبلغ ذلك عليا ، فقال:

لأصبحن العاصي ابن العاصي     سبعين ألفا عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص     مستحقبين حلق الدلاص

وجعل معاوية يتأنى في أمره ومسيره ، وبعث علي رضي الله عنه زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف ، وبعث معه شريح بن هانئ في أربعة آلاف ، وخرج علي من النخيلة بمن معه ، فلما دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة ، ولما عبر الفرات قدم زيادا وشريحا أمامه ، فلقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشام ، فأرسلا إلى علي يخبرانه ، فبعث علي الأشتر إلى النضر وشريح وقال: إذا قدمت [عليهم] فأنت [أمير] عليهم ، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن [ ص: 102 ] يبدءوك حتى تدعوهم وتسمع قولهم ، واجعل على ميمنتك زيادا وعلى ميسرتك شريحا ، وقف من أصحابك وسطا ، فإني حثيت السير في أثرك إن شاء الله تعالى .

وكتب إليهما: إني قد أمرت عليكما مالكا ، فاسمعا له وأطيعا . وقدم الأشتر على القوم ، وكف عن القتال حتى إذا كان المساء حمل عليهم أبو الأعور ، فثبتوا له ، واضطربوا له ساعة ، ثم انصرف أهل الشام ، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال ، فاقتتلوا يومهم ذلك ، وحمل عليهم الأشتر فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي ، وحجز الليل بينهم ، فلما أصبحوا انصرف أهل الشام تحت الليل ، فقدم الأشتر بمن معه ، ولحقه علي ، فأمر الناس فوضعوا الأثقال وذهب شباب الناس يستقون الماء ، فمنعهم أهل الشام فاقتتلوا على الماء ، وكان معاوية قد اختار موضعا سهلا إلى جانب شريعة في الفرات ، ليس ثمة غيرها ، فجاء أصحاب علي فأخبروه بعطش الناس ، وإنهم لم يجدوا غير شريعة القوم ، فقال: قاتلوهم عليها ، فقال الأشعث بن قيس: أنا أسير إليهم ، فقال علي: سر .

فسار في أصحابه ، فثاروا في وجوههم ، فتراموا بالنبل ، وتطاعنوا بالرمح ، واجتلدوا بالسيوف ، وأتى أهل الشام يزيد بن أسد البجلي مددا ، وخرج عمرو بن العاص في جند كثير يمد أبا الأعور ويزيد بن أسيد ، وجاء الأشتر يمد الأشعث بن قيس ، وشبث بن ربعي ، فاشتد القتال ، وأنشأ عبد الله بن عوف الأزدي مرتجزا يقول:


خلوا لنا ماء الفرات الجاري     أو أثبتوا لجحفل جرار
لكل قوم مستميت شاري     مطاعن برمحه كرار
ضراب هامات العدا مغوار



وأتى مملوك لبعض أهل العراق فملأ قربته فشد عليه رجل من أهل الشام فضربه فصرعه ، ثم إن القوم خلوا عن الماء فاجتمعت سقاة الفريقين عليه ، وبعث علي رضي [ ص: 103 ] الله عنه صعصعة [فقال له: ائت معاوية وقل له]: إنا سرنا إليك ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم ، وإنك قدمت خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ، وهذه أخرى قد فعلتموها ، قد حلتم بين الناس وبين الماء ، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، فإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب .

فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه [عثمان] بن عفان ، حصروه أربعين صباحا يمنعونه برد الماء ولين الطعام . وقال عمرو بن العاص: خل بينهم وبين الماء ، فإن القوم لن يعطشوا وأنت ريان . وقال عبد الله بن أبي سرح: امنعهم الماء [إلى] الليل ، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا ، وكان رجوعهم فلا لهم . فقال صعصعة : إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة أولي الفجور وشربة الخمور ، فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهددونه ، فقال معاوية:

كفوا عن الرجل فإنه رسول .

ثم بعث من يردهم عن الماء ، فأبرزهم علي إلى القتال فاقتتلوا ، فغلب أصحاب علي رضي الله عنه على الماء ، فقال علي رضي الله عنه: خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا ، وخلوا عنهم ، ففعلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية