صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين

فمن الحوادث فيها مقتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما

قد تقدم ذكرنا السبب في عزل قيس بن سعد عن مصر وتولية محمد بن أبي بكر .

قال الزهري : لما حدث قيس بن سعد [بمجيء] محمد بن أبي بكر ، وأنه قادم عليه أميرا ، تلقاه وخلا به ، وقال له: إنك جئت من عند امرئ لا رأي له ، وليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم ، وإني أدلك على الأمر الذي كنت أكايد به معاوية وعمرا فكايدهم به ، فإنك إن تكايدهم بغيره تهلك ، وحدثه بما كان يصنع ، واغتشه محمد ، وخالف ما أمره به ، فلما استقر محمد نهض بأهل مصر إلى قتال أهل خربتا ، وهزم محمد ، ولما قدم قيس بن سعد المدينة خافه مروان والأسود بن البختري حتى إذا خاف أن يؤخذ ويقتل ركب راحلته فلحق بعلي رضي الله عنه .

فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عليا بقيس بن سعد ومكايده ، فوالله لو أمددتموه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيسا إلى علي . فلما جاء قتل محمد عرف علي أن قيسا كان يداري أمورا كثيرة ، وأن من أشار إليه بعزل قيس لم ينصحه ، فبعث الأشتر . [ ص: 150 ] وقد ذكرنا أن قوما يقولون: إنما بعث محمدا بعد الأشتر ، والله أعلم .

ولما انصرف الحكمان بايع أهل الشام معاوية بالخلافة ولم يزدد معاوية إلا قوة ، واختلف الناس بالعراق على علي رضي الله عنه ، فما كان لمعاوية هم إلا مصر ، وكان يرجو أنه إذا أظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها ، وكان عمرو بن العاص صالح معاوية حين بايعه على قتال علي رضي الله عنه على أن له مصر طعمة ما بقي .

فلما أراد معاوية أخذ مصر استشار أصحابه ، فقال عمرو: أرى أن نبعث جيشا كثيفا عليهم رجل حازم صارم تأمنه وتثق به فيأتي مصر ، فإنه سيأتيه من كان على مثل ذلك فتظاهره على عدوك ، فقال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: ما أعلمه .

قال معاوية: بلى ، فكاتب من بها ، فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم ، وأما عدونا فندعوهم إلى صلحنا ونمنيهم شكرنا ونخوفهم حربنا ، فإن صلحوا لنا وإلا كان حربهم من وراء ذلك ، فقال عمرو: اعمل بما ترى ، فو الله ما أرى أمرك وأمرهم يؤول إلا إلى الحرب .

فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري ، وإلى معاوية بن حديج السكوني [الكندي] ، أما بعد: فإن الله تعالى قد ابتعثكما لأمر أعظم به أجركما ، ورفع به ذكركما ، طلبكما بدم الخليفة ، فأبشروا برضوان الله . فقدم به رسوله إلى مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها ، فكتبا إليه: عجل بخيلك ورجلك يفتح الله عليك . فبعث عمرو بن العاص في ستة آلاف ، فخرج فاجتمع إليه العثمانية ، وكتب إلى محمد بن أبي بكر:

تنح عني بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر ، وكتب إليه معاوية: إني لا أعلم أحدا كان أعظم على عثمان بلاء منك ، فلا تظنن أني نائم عنك . فبعث الكتابين إلى علي وكتب إليه: أما بعد ، فإن ابن العاص قد نزل أراضي مصر ، واجتمع إليه أهل البلد ، وقد رأيت من قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال .

فكتب إليه علي: اصبر لعدوك وإن كانت فئتك أقل الفئتين ، فإني باعث إليك [ ص: 151 ] الناس ، وانتدب إلى القوم كنانة بن بشر ، وقام علي رضي الله عنه فحث الناس على مصر ، فتقاعدوا ، فعاد يحثهم ، فخرج نحو من ألفين ، فقال: أف لكم ، وقام محمد خطيبا ، فقال: إن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة قد ساروا إليكم بالجنود فمن أراد فليخرج إليهم ، انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر . فانتدب معه نحو من ألفي رجل ، وخرج محمد في ألفي رجل ، وأقبل عمرو فطرد أصحابه كنانة ، فبعث إلى معاوية بن حديج فأحاط أصحابه بكنانة فقاتل حتى قتل ، وتفرق عن محمد أصحابه ، فخرج يمشي حتى انتهى إلى خربة ، فأوى إليها .

وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق ، فسألهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟ فقال أحدهم: لا والله إلا أني دخلت تلك الخربة فإذا فيها رجل جالس ، فقال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة ، فدخلوا عليه واستخرجوه وقد كاد يموت عطشا وأقبلوا به نحو الفسطاط ، فوثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر - وكان في جند عمرو بن العاص - وقال: أيقتل أخي صبرا ، ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه ، فبعث إليه: إن عمرو بن العاص يأمرك أن تأتيه بمحمد بن أبي بكر ، فقال: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد ، هيهات .

فقال محمد: اسقوني من الماء ، فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائما ، أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه بالنار . فلما بلغ الخبر عائشة جزعت عليه جزعا شديدا ، وقنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية وعمرو ، وقبضت عيال محمد إليها وولده ، وكان القاسم بن محمد في عيالها ، وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بقتل محمد وكنانة .

أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، عن أبي القاسم بن أبي عبد الله بن منده ، قال: أخبرنا أبي قراءة عليه ، قال: أخبرنا أبو سعيد بن يونس الحافظ ، قال: حدثنا أسامة بن أحمد التجيبي ، قال: حدثني زيد بن أبي زيد بن أبي العمر ، عن أحمد بن يحيى بن زيد ، عن إسحاق بن الفرات ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، قال: بعث معاوية بن حديج بمولى له يقال له سليم إلى المدينة بشيرا بقتل محمد بن أبي بكر ومعه قميص محمد بن أبي بكر ودخل به دار عثمان ، فاجتمع إليه آل عثمان من رجال ونساء ، وأظهروا السرور بمقتله ، وأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان بكبش يشوى ، [ ص: 152 ] وبعثت بذلك إلى عائشة وقالت: هكذا شوي أخوك ، فلم تأكل عائشة شواء حتى لحقت بالله عز وجل .

وأما محمد بن أبي حذيفة فقد زعم قوم أنه قتل بعد قتل ابن أبي بكر . وقال آخرون: بل قتل [قبل] ذلك في سنة ست وثلاثين ، وقد سبق ذكر ذلك فيما قدمنا .

وفي هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر وجه معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة ، فوجه علي رضي الله عنه أعين بن ضبيعة المجاشعي لإخراج ابن الحضرمي من البصرة مددا لزياد .

شرح القصة: لما قتل محمد بن أبي بكر خرج ابن عباس من البصرة إلى علي بالكوفة واستخلف زيادا ، وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية ، فنزل في بني تميم ، فأرسل زيادا إلى حضين بن المنذر ، ومالك بن مسمع ، فقال: أنتم يا معاشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين ، وقد نزل ابن الحضرمي حيث ترون ، وأتاه من أتاه ، فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين ، فقال حضين : نعم ، وقال مالك - وكان رأيه مائلا إلى بني أمية ، وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل: هذا أمر لي فيه شركاء ، أستشير وأنظر . فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف ربيعة ، فأرسل إلى نافع بن خالد فسأله أن يمنعه ، فأشار عليه نافع بصبرة بن شيمان الحداني ، فأرسل إليه زياد فقال: ألا تجيرني وبيت مال المسلمين ، قال: بلى إن حملته إلي ونزلت داري ، ففعل وحول معه المنبر ، وتحول معه خمسون رجلا ، فكان زياد يصلي الجمعة في مسجد الحداني .

وكتب زياد إلى علي رضي الله عنه: إن ابن الحضرمي قد أقبل من الشام ، فنزل في بني تميم ، ونعى ابن عفان ، ودعا إلى الحرب وبايعته تميم وجل أهل البصرة ، ولم يبق معي من أمتنع به ، فاستجرت لنفسي ولبيت المال بصبرة بن شيمان ، فوجه علي أعين بن ضبيعة ، وكتب إلى زياد : إني قد وجهت أعين ليعرض بقومه عن ابن [ ص: 153 ] الحضرمي ، فإن فرق جمعه فهو ما نريد ، وإن ترقت إليهم الأمور فانهض إليهم وجاهدهم ، وإن رأيت ممن قبلك تثاقلا ، فدارهم وطاولهم ، وكأنك بجنود الله قد أظلتك .

فقدم أعين فأتى زيادا فنزل عنده ، ثم أتى قومه فجمع رجالا ونهض إلى ابن الحضرمي ، فدعاهم فشتموه وناوشوه وانصرف عنهم ، فدخل عليه قوم فقتلوه ، فلما قتل أعين ، أراد زياد قتالهم ، فأرسل بنو تميم إلى الأزد : إنا لم نعرض لجاركم ولا لأحد من أصحابه ، فماذا تريدون من جارنا ، وكرهت الأزد القتال ، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناه ، وإن كفوا عنا كففنا عن جارهم ، فأمسكوا . وكتب زياد إلى علي بقتل أعين ، وأخبره أنه لم يخف معه ممن تقوى به على قتالهم ، فكتب إليه علي يصوب رأيه ، وبعث إليه حارثة بن قدامة في خمسين من بني تميم ، وشريك بن الأعور في خمسمائة ، فقدم حارثة البصرة ، فقال له زياد : احذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك فسار حارثة إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علي رضي الله عنه ، فأجابه أكثرهم ، فسار إلى ابن الحضرمي فحصره في داره ثم أحرق عليه الدار وعلى من معه ، وكانوا سبعين رجلا ، وقيل: أربعين ، وتفرق الناس ، ورجع زياد إلى دار الإمارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية