صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

327 - عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعد بن سهم ، أبو عبد الله :

أنبأنا أبو بكر بن أبي طاهر ، قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال : أخبرنا ابن حيوية ، قال : حدثنا ابن معاوية ، قال : حدثنا ابن الفهم ، قال : حدثنا محمد بن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، قال : قال عمرو بن العاص :

كنت للإسلام مجانبا معاندا ، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت ، ثم حضرت أحدا فنجوت ، ثم حضرت الخندق فنجوت ، فقلت في نفسي : كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش فلم أحضر الحديبية ولا صلحها ، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ، ورجعت قريش إلى مكة ، فجعلت أقول : يدخل محمد إلى مكة بأصحابه ، ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف ، وما شيء خير من الخروج ، وأنا بعد نأي عن الإسلام ، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم ، فقدمت مكة ، فجمعت رجالا من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ، ويقدموني فيما نابهم ، فقلت لهم : كيف أنا فيكم ؟ قالوا : ذو رأينا ومدد وهننا مع يمن نقيبة وبركة أمر ، قلت : تعلمن والله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا ، وإني قد رأيت رأيا ، قالوا : ما هو ؟ قلت : نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن يظهر [محمد ] كنا عند النجاشي تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد ، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا ، قالوا : هذا الرأي ، قلت فاجمعوا ما تهدون له ، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم ، فجمعنا أدما كثيرا ثم خرجنا فقدمنا على النجاشي فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتاب كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فدخل عليه ثم خرج من عنده ، فقلت لأصحابي : هذا عمرو بن أمية الضمري ، ولو قد دخلت على النجاشي سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه ، فإذا فعلت ذلك سررت قريشا وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد .

[ ص: 197 ] فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع ، فقال : مرحبا بصديقي ، أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قلت : نعم أيها الملك ، أهديت لك أدما كثيرا ، ثم قربته إليه فأعجبه ، وفرق منه أشياء بين بطارقته ، وأمر بسائره فأدخل في موضع ، فلما رأيت طيبة نفسه قلت : أيها الملك ، إني رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل هو عدونا ، وقد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله ، فغضب ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره ، وابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي وأصابني من الذل ما لو شقت الأرض دخلت فيها فرقا منه ، فقلت له : أيها الملك ، لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك إياه . قال : فاستحيا وقال : يا عمرو ، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، والذي كان يأتي عيسى أعطيكه لتقتله ؟ قال عمرو : وغير الله قلبي عما كنت عليه وقلت في نفسي : عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت ، قلت : وتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال : نعم أشهد به عند الله يا عمرو فأطعه واتبعه ، والله إنه لعلى الحق ، وليظهرن على كل من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، قلت : أفتبايعني له على الإسلام ، قال : نعم ، فبسط يده فبايعته على الإسلام ، ودعى لي بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابا وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها ثم خرجت إلى أصحابي ، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك ، وقالوا : هل أدركت من صاحبك ما أردت ؟ فقلت لهم : كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت : أعود إليه ، قالوا : الرأي ما رأيت ، وفارقتهم وكأني أعمد لحاجة ، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت تدفع ، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية ، فخرجت بها ومعي نفقة واتبعت بعيرا وخرجت أريد المدينة حتى أتيت على مر الظهران ، ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة إذا رجلان قد سبقا في بعير كبير يريدان منزلا وأحدهما داخل في خيمة والآخر قائم يمسك الراحلتين ، فنظرت فإذا خالد بن الوليد ، فقلت : أبا سليمان ، قال : نعم ، قلت : أين تريد ؟ قال : محمدا ، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم ، والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها ، قلت : والله وأنا قد أردت محمدا وأردت الإسلام .

وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة ، فما أنسى قول رجل لقينا ببئر أبي عتبة يصيح : يا رباح يا رباح ، فتفاءلنا بقوله [ ص: 198 ] وسررنا ، ثم نظر إلينا فسمعته يقول : قد أعطيت مكة المقادة بعد هذين ، فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد ، ثم ولى مدبرا إلى المسجد سريعا ، فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا ، وكان كما ظننت ، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعا حتى طلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا ، فتقدم خالد بن الوليد فبايع ، ثم تقدم عثمان فبايع ، ثم تقدمت ، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياء منه ، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يغفر لي ما تأخر ، فقال : "إن الإسلام يجب ما كان قبله ، والهجرة تجب ما كان قبلها " . فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحدا من أصحابي في أمر حربه من حيث أسلمنا ، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة ، ولقد كنت عند عمر بن الخطاب بتلك الحال
.

قال عبد الحميد : أخبرني أبي : أنهم قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان .

قال علماء السير : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في وجوه منها غزاة ذات السلاسل ، وأمده فيها بثمانين منهم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة ، ومنها إلى صنم هذيل ، وهو سواع فكسره ، وإلى بني فزارة فصدقهم .

واستعمله أبو بكر على الشام وأمده بخالد بن الوليد فكان أمير الناس يوم أجنادين ويوم فحل ، وفي حصار دمشق حتى فتحت . وولاه عمر وعثمان ، ثم مال إلى معاوية وكان أحد الحكمين على ما سبق ذكره .

ذكر وفاته : كان عند الموت يقول : كأن على عنقي جبال رضوى ، وكأن في جوفي الشوك ، وكأن نفسي تخرج من ثقب إبرة ، وأعتق كل مملوك له .

أخبرنا ابن ناصر ، قال : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا محمد بن الفتح ، قال : أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي ، قال : أخبرنا جعفر بن محمد الخواص ، قال : أخبرنا ابن مسروق ، قال : حدثني عمر بن محمد ، قال : حدثني محمد بن دينار ، قال : حدثنا محمد بن عبيد أبو عبد الرحمن العتبي ، قال : حدثني أبي ، قال :

[ ص: 199 ] دخل ابن عباس على عمرو بن العاص يعوده ، فقال : كيف تجدك يا أبا عبد الله ؟ قال : أجدني قد أفسدت ديني بدنياي ، أصلحت من دنياي قليلا وأفسدت من آخرتي كثيرا ، فوددت أن الذي أفسدت هو الذي أصلحت ، أن الذي أصلحت هو الذي أفسدت ، ولو كان ينجيني ترك ما في يدي لتركته ، ولو كنت أدرك ما أطلب طلبت ، فقد صرت كالمنجنيق بين السماء والأرض ، لا يرقى بيد ، ولا يرقى برجل ، فهو متحير بين الحياة والموت ، ويأمل أن يكون في الموت راحته ، ويخاف مما قدمت يده ، فعظني يا ابن أخي ، فقال : يا أبا عبد الله ، إن شئت أن تبكي بكيت ، فلست تدري متى يقع الأمر وأنت تأمرنا بالرحيل وأنت مقيم ، ولو دعوت دعوة لا تلقي صولها إلى يوم القيامة . قال : فغضب عمرو وقال : تؤنسني من نفسي وتؤنسني من رحمة ربي ، اللهم خذ مني حتى ترضى ، فقال ابن عباس : هيهات يا عبد الله سلفت جديدا وتعطي خلقا ، فقال عمرو : ما لي ولك يا ابن عباس ، ما سرحت كلمة إلى ربي إلا أخذت بغيها ، ثم تمثل عمرو :


كم عائد رجلا وليس يعوده إلا لينظر هل يراه يفرق

أخبرنا أبو الحسن الأنصاري ، قال : أخبرنا علي بن عبد الله النيسابوري ، قال : أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، قال : أخبرنا ابن عمرويه ، قال : أخبرنا إبراهيم بن محمد شعبان ، قال : أخبرنا مسلم بن الحجاج ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا الضحاك - يعني أبا عاصم - قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، قال : أخبرنا ابن شماسة المهري ، قال :

حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول : يا أبتاه ، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ، أما بشرك بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما تعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث : لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ولا أحب إلي من أن يكون استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل [ ص: 200 ] النار ، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يدي ، فقال : ما لك يا عمرو ، قلت : أردت أن أشترط ، قال : ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي ، قال : "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة ، ثم ولينا أشياء بعد ، فلست أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .

توفي عمرو بن العاص في هذه السنة بمصر وهو واليها ، وقيل : في سنة ثلاث وأربعين ، وكان قد عمل على مصر لعمر رضي الله عنه أربع سنين ، ولعثمان أربع سنين ، ولمعاوية سنتين إلا شهرا .

[ ص: 201 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية