صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين

فمن الحوادث فيها مقتل عبد الله بن الزبير

قد ذكرنا أن ابن الزبير حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ، وما زال الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة . وكانوا يضربونه بالمنجنيق .

قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت كالرعد ، فأعظم ذلك أهل الشام ، فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا ، ثم رمى معهم ، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى ، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا ، فانكسر أهل الشام ، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر ، فصعقت من الغد صاعقة ، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عشرة ، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون .

أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، قال حدثنا حنبل بن إسحاق ، قال: أخبرنا الحميدي ، قال: حدثنا سفيان ، قال: كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون:


خطارة مثل الفنيق المزبد أرمي بها أعواد هذا المسجد

[ ص: 125 ]

قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم ، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته علموا أنه قد تقبل منهم ، وإن لم تأكله قالوا: لم تقبل ، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا .

قال علماء السير: فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل ابن الزبير ، فتفرق عامة أصحابه وخذلوه ، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر [أن] ولديه حمزة وحبيبا أخذوا لأنفسهما أمانا ، فدخل عبد الله بن الزبير على أمه أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان ، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي ، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة ، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له ، وقد قتل عليك أصحابك ، ولا تمكن من رقبتك فينقلب بها غلمان بني أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك . وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت ، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين ، وكم خلودك في الدنيا؟! القتل [القتل] أحسن .

فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي ، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تستحل حرمته ، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك ، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمي الأمر لله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمدا بفاحشة ، ولم يجر في حكم الله عز وجل ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا [ ص: 126 ] ربي عز وجل ، اللهم إني لا أقول هذا تزكية [مني لنفسي] ، أنت أعلم بي ، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني .

فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني ، اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك ، فقال: جزاك الله يا أماه خيرا ، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد . فقالت: لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق . ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب في الظلماء ، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة ، وبره بأبيه وبي ، اللهم إني قد أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين .

وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر ، فوقف فسلم ثم دنا ، فتناول يدها فقبلها ، فقالت: هذا وداع فلا تقعد ، فقال: جئت مودعا ، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا ، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي ، قالت: صدقت يا بني ، أتمم على نصرتك ، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك ، ادن مني أودعك . فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها ، وقالت حيث مست الدرع: ما [هذا] صنيع من يريد ما تريد ، قال: ما لبست [هذا] الدرع إلا لأشد منك ، قالت: فإنه لا يشد مني . ثم انصرف وهو يقول:


إني إذا أعرف يومي أصبر     إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

ثم إن القوم أقاموا على كل باب رجالا وقائدا ، فشحنت الأبواب بأهل الشام ، وكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة ، ولأهل دمشق باب بني شيبة ، ولأهل الأردن باب الصفا ، ولأهل فلسطين باب بني جمح ، ولأهل قنسرين باب بني سهم ، [ ص: 127 ] فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ، ومرة في هذه الناحية ، كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال ، وقالت لابن الزبير زوجته: أخرج أقاتل معك؟ فقال: لا ، وأنشد:


كتب القتل والقتال علينا     وعلى المحصنات جر الذيول

فلما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير الأبواب ، وبات ابن الزبير يصلي ليلته ، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى ، ثم انتبه ، فقال: أذن يا سعد ، فأذن عند المقام ، وتوضأ ابن الزبير ، وركع ركعتي الفجر ثم تقدم ، وأقام المؤذن ، فصلى بأصحابه ، فقرأ: ن والقلم [68: 1] وقال: من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول ، وأنشد:


ولست بمبتاع الحياة بسبة     ولا مرتق من خشية الموت سلما

ثم قال: احملوا على بركة الله ، ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون ، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه ، فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته ، قال يرتجز:


فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا     ولكن على أقدامنا تقطر الدما

وتغاووا عليه فقتل .

وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو ، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا ، فبعث الحجاج رأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو إلى المدينة ، فنصبت بها ، ثم ذهب بها إلى عبد الملك ، وسيأتي تمام قصة ابن الزبير في ذكر من مات في هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية