صفحة جزء
466 - ليلى الأخيلية ، وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية ، ومعاوية هو الأخيل بن عبادة بن عقيل:

أحبها توبة بن الحمير ، وكانت من أشعر النساء ، لا يقدم عليها في الشعر غير [ ص: 173 ] خنساء . وكانت هاجت النابغة الجعدي ، فكان مما هجاها قوله:


فكيف أهاجي شاعرا رمحه استه خضيب البنان ما يزال مكحلا

فقالت في جوابه:


أعيرتني هذا بأمك مثله     وأي حصان لا يقال لها هلا

ودخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت ، فقال لها: ما رأى توبة منك حتى عشقك ، فقالت: ما رأى الناس منك حتى جعلوك خليفة ، فضحك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها .

أخبرنا ابن المبارك بن علي الصوفي ، قال: أخبرنا ابن العلاف ، قال: أخبرنا عبد الملك بن بشران ، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي ، قال: أخبرنا أبو بكر الخرائطي ، قال: حدثني إسماعيل بن أبي هاشم ، قال: حدثنا عبد الله بن أبي الليث ، قال: قال عبد الملك بن مروان لليلى الأخيلية: بالله هل كان بينك وبين توبة سوء قط؟ قالت: والذي ذهب بنفسه وهو قادر على [ذهاب] نفسي ما كان بيني وبينه سوء قط إلا أنه قدم من سفر فصافحته فغمز يدي ، فظننت أنه يخضع لبعض الأمر ، قال: فما بعد ذلك؟ فقلت له:


وذي حاجة قلنا له لا تبح بها     فليس إليها ما حييت سبيل

[ ص: 174 ]

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه     وأنت لأخرى فارغ وحليل

فقالت: لا والذي ذهب بنفسه ما كلمني بسوء قط حتى فرق بيني وبينه الموت .

أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، ومحمد بن ناصر الحافظان ، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سويد ، قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري ، قال: حدثني أبي ، قال: حدثني أحمد بن عبيد ، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ، عمن حدثه ، عن مولى لعنبسة بن سعيد بن العاص ، قال: كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد [بن العاص] إذا دخل على الحجاج ، فدخل يوما ودخلت إليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة ، فقعدت ، فجاء الحاجب فقال: امرأة بالباب ، فقال الحجاج: أدخلها . فلما رآها الحجاج طأطأ برأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصابت الأرض ، فجاءت حتى قعدت بين يديه فنظرت إليها فإذا امرأة قد أسنت ، حسنة الخلق ، ومعها جاريتان لها ، وإذا هي ليلى الأخيلية ، فسألها الحجاج عن نسبها ، فانتسبت له ، فقال لها: يا ليلى ما أتاني بك؟ فقالت: اختلاف النجوم ، وقلة الغيوم ، وكلب البرد ، وشدة الجهد ، وكنت لنا بعد الله عز وجل الرفد ، فقال لها: صفي لنا الفجاج . فقالت:

الفجاج مغبرة ، والأرض مقشعرة ، والمبرك معتل ، وذو العيال مختل ، والهالك المقل ، والناس مسنتون ، رحمة الله يرجون ، وأصابتنا سنون مجحفة لم تدع لنا هبعا ولا ربعا ولا عافطة ولا نافطة ، أذهبت الأموال ، وفرقت الرجال ، وأهلكت العيال . ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولا ، قال: هاتي ، فأنشأت تقول:


أحجاج لا يفلل سلاحك إنما الـ     ـمنايا بكف الله حيث يراها



[ ص: 175 ]

أحجاج لا تعط العصاة مناهم     ولا الله يعطي للعصاة مناها
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة     تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها     غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله     دماء رجال حيث مال حشاها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة     أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مسمومة فارسية     بأيدي رجال يحلبون صراها
[فما ولد الأبكار والعون مثله     ببحر لا أرض يجف ثراها]



قال: فلما قالت هذا البيت ، قال الحجاج: قاتلها الله ، ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها . ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: إني والله لأعد للأمر عسى أن يكون أبدا ، ثم التفت إليها فقال: حسبك ، فقالت: إني قد قلت أكثر من هذا ، قال: حسبك هذا ، ويحك! حسبك . ثم قال: اذهب يا غلام إلى فلان فقل له: اقطع لسانها ، قال: فأمر بإحضار الحجام ، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك ، أما سمعت ما قال: إنما أمر بقطع لساني بالصلة ، فبعث إليه يستثبته ، فاستشاط الحجاج غضبا وهم بقطع لسانه ، وقال: ارددها . فلما دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي ، ثم أنشأت [تقول]:


حجاج أنت الذي ما فوقه أحد     إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت     وأنت للناس نور في الدجى يقد

ثم أقبل الحجاج على جلسائه ، فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير ، إلا أنا لم نر امرأة قط أفصح لسانا ولا أحسن محاورة ، ولا أملح وجها ، ولا أرصن شعرا منها . فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها . ثم التفت [ ص: 176 ] إليها ، فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة ، فقالت: نعم أيها الأمير ، هو الذي يقول:


وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها     وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها     وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله     ألا كل ما قرت به العين صالح
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت     علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا     إليها صدى من جانب القبر صائح

فقال لها الحجاج: زيدينا يا ليلى من شعره ، فقالت: هو الذي يقول:


حمامة بطن الواديين ترنمي     سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعما     ولا زلت في خضراء غض نضيرها
وأشرف بالقور اليفاع لعلني     أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت     فقد رابني منها الغداة سفورها
يقول رجال لا يضيرك نأيها     بلى كل ما شف النفوس يضيرها
بلى قد يضير العين أن تكثر البكا     ويمنع منها نومها وسرورها
ولقد زعمت ليلى بأني فاجر     لنفسي تقاها أو عليها فجورها

فقال لها الحجاج: ما الذي رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير ، كان يلم بنا كثيرا ، فأرسل إلي يوما أني آتيك ، وفطن الحي فأرصدوا له ، فلما أتاني سفرت له ، فعلم أن ذلك لشر ، فلم نزد على التسليم والرجوع ، فقال: لله درك! فهل رأيت منه شيئا تكرهينه؟ قالت: لا والله الذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرة قولا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر ، فأنشأت أقول:


وذي حاجة قلنا له لا تبح بها     فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه     وأنت لأخرى فارغ وحليل



[ ص: 177 ] ولا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئا حتى فرق الموت بيني وبينه . قال: ثم ماذا؟ قالت: ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له وأوصى إلى ابن عم له: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك:


عفا الله عنها هل أبيتن ليلة     من الدهر لا يسري إلي خيالها

فخرجت وأنا أقول:


وعنه عفا ربي وأحسن حاله     فعز علينا حاجة لا ينالها

قال: ثم ماذا؟ قالت: ثم لم يلبث أن مات ، فأتانا نعيه . قال: فأنشدينا بعض ما أتاك فيه ، فأنشدت تقول:


أتتك العذارى من خفاجة نسوة     بماء شئون العبرة المتحادر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ     قلائص ينفجن الحصى بالكراكر

فأنشدته ، فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي -وكان من جلساء الحجاج-: من هذا الذي تقول هذه فيه ، والله إني لأظنها كاذبة ، فنظرت إليه ثم قالت:

أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره ألا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه .

قال الحجاج: هذا وأبيك الجواب ، وقد كنت عن هذا غنيا ، ثم قال لها: سلي يا ليلى تعطي ، قالت: أعط ، فمثلك أعطى فأحسن . قال: لك عشرون ، قالت: زد؛ فمثلك زاد فأجمل . قال: لك أربعون . قالت: زد فمثلك زاد فأفضل ، قال: لك ستون ، قالت: زد فمثلك زاد فأكمل ، قال: لك ثمانون ، قالت: زد فمثلك زاد فتمم ، قال: لك مائة ، واعلمي [يا ليلى]: أنها غنم ، قالت: معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودا ، وأمجد مجدا ، وأورى زندا من أن تجعلها غنما ، قال: فما هي ويحك يا ليلى؟! قالت: مائة ناقة برعاتها . فأمر لها بها . ثم قال: ألك حاجة بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن ، قال: قد فعلت ، وقد كانت تهجوه ويهجوها ، فبلغ النابغة ذلك ، فخرج هاربا ، عائذا بعبد الملك ، فاتبعته إلى الشام ، فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان ، فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة ، فماتت بقومس [ ص: 178 ] ويقال: بحلوان . وفي رواية: بساوة ، فقبرها هناك .

أخبرنا ابن ناصر ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري ، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج ابن الطراز ، قال: حدثنا أبو علي الجيلي ، قال: حدثنا عمر بن محمد بن الحكم النسائي ، قال: حدثني إبراهيم بن زيد النيسابوري: أن ليلى الأخيلية بعد موت توبة تزوجت ، ثم إن زوجها بعد ذلك مر بقبر توبة وليلى معه ، فقال لها: يا ليلى أتعرفين لمن هذا القبر؟ فقالت: لا ، فقال: هذا قبر توبة فسلمي عليه ، فقالت: امض لشأنك ، فما تريد من توبة وقد بليت عظامه ، قال: أريد تكذيبه ، أليس هو القائل في بعض أشعاره:


ولو أن ليلى الأخيلية سلمت     علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا     إليها صدى من جانب القبر صائح

فوالله لا برحت أو تسلمي عليه ، فقالت: السلام عليك يا توبة ورحمة الله ، بارك الله لك فيما صرت إليه . فإذا طائر قد خرج من القبر حتى ضرب صدرها ، فشهقت شهقة فماتت ، فدفنت إلى جانب قبره ، فنبتت على قبره شجرة وعلى قبرها شجرة ، فطالتا فالتفتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية