صفحة جزء
[كتاب المأمون إلى إسحاق ليختبر علماء سماهم له ]

ثم كتب المأمون كتابا آخر من جنس الأول إلى إسحاق ، وأمره بإحضار من امتنع ، فأحضر جماعة منهم أحمد بن حنبل ، وبشر بن الوليد الكندي ، وأبو حسان الزيادي ، وعلي بن أبي مقاتل ، والفضل بن غانم ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، وعلي بن الجعد ، وسجادة ، والذيال بن الهيثم ، وقتيبة بن سعيد ، وسعدويه الواسطي ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وابن الهرش ، وابن علية الأكبر ، ومحمد بن نوح العجلي ، ويحيى بن عبد الرحمن العمري ، وأبو نصر التمار ، وأبو معمر القطيعي ، ومحمد بن حاتم بن ميمون وغيرهم .

وعرض عليهم كتاب المأمون فعرضوا ووروا ، ولم يجيبوا ولم ينكروا ، فقال [ ص: 491 ] لبشر بن الوليد : ما تقول ؟ قال : قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة ، قال : وإن، فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب ، قال : أقول : كلام الله ، قال : لم أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ؟ قال : ما أحسن غير ما قلت لك ، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه .

ثم قال لعلي بن أبي مقاتل : ما تقول ؟ قال : القرآن كلام الله ، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا ، وأجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك .

ثم قال لأحمد بن حنبل : ما تقول ؟ قال : كلام الله ، قال أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله ، لا أزيد على هذا ، ثم امتحن الباقين ، وكتب بجواباتهم .

وقال ابن البكاء الأكبر : أقول : القرآن مجعول ومحدث; لورود النص بذلك ، فقال له إسحاق بن إبراهيم : والمجعول مخلوق ؟ قال : نعم ، قال : فالقرآن مخلوق ؟ قال : لا أقول : مخلوق ، ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون .

فورد عليه كتاب المأمون : بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة ، وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل ، فمن لم يجب أنه مخلوق . . . فامنعه من الفتوى والرواية .

ويقول في الكتاب : فأما ما قال بشر . . . فقد كذب ، لم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك عهد أكثر من إخبار أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق ، فادع به إليك ، فإن تاب فأشهر أمره ، وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده . . . فاضرب عنقه ، وابعث إلينا برأسه .

وكذلك إبراهيم بن المهدي . . . فامتحنه; فإن أجاب ، وإلا . . . فاضرب عنقه .

وأما علي بن أبي مقاتل . . . فقل له : ألست القائل لأمير المؤمنين : إنك تحلل وتحرم ؟ !

وأما الذيال . . . فأعلمه : أنه كان في الطعام الذي كان سرقه من الأنبار ما يشغله .

[ ص: 492 ] وأما أحمد بن يزيد أبو العوام وقوله : إنه لا يحسن الجواب في القرآن . . . فأعلمه : أنه صبي في عقله لا في سنه ، جاهل سيحسن الجواب إذا أدب ، ثم إن لم يفعل . . . كان السيف من وراء ذلك .

وأما أحمد بن حنبل . . . فأعلمه : أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته ، واستدل على جهله وآفته بها .

وأما الفضل بن غانم . . . فأعلمه : أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر ، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة; يعني : في ولايته القضاء .

وأما الزيادي . . . فأعلمه أنه كان منتحلا ولاء دعي ، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه ، وإنما قيل له : الزيادي لأمر من الأمور .

قال : وأما أبو نصر التمار . . . فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره .

وأما ابن نوح وابن حاتم فأعلمهم : أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد ، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم وما نزل به كتاب الله في أمثالهم . . . لاستحل ذلك ، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركا ، وصاروا للنصارى شبها ؟ !

وأما ابن شجاع . . . فأعلمه : أنك صاحبه بالأمس ، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال الأمير علي بن هشام .

وأما سعدويه الواسطي . . . فقل له : قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث والحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة .

وأما المعروف بسجادة ، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من العلماء القول بأن القرآن مخلوق . . . فأعلمه أن في شغله وإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد .

وأما القواريري . . . ففيما يكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات : ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته ، وسخافة عقله ودينه .

[ ص: 493 ] وأما يحيى العمري : فإن كان من ولد عمر بن الخطاب . . . فجوابه معروف .

وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم : فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه . . . لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه ، وإنه بعد صبي يحتاج إلى أن يعلم .

وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف : بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن ، فحمحم عنها ولجلج فيها ، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف ، فأقر ذميما فأنصصه عن إقراره ، فإن كان مقيما عليه . . . فأشهر ذلك وأظهره .

ومن لم يرجع عن شركه - ممن سميت بعد بشر وابن المهدي . . . فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم ، فإن لم يرجعوا . . . احملهم على السيف .

قال : فأجابوا كلهم عند ذلك إلا أحمد بن حنبل وسجادة ومحمد بن نوح والقواريري ، فأمر بهم إسحاق فقيدوا ، ثم سألهم من الغد - وهم في القيود ، فأجاب سجادة ، ثم عاودهم ثالثا ، فأجاب القواريري ، ووجه بأحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إلى الروم .

ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين ، فغضب وأمر بإحضارهم إليه ، فحملوا إليه ، فبلغتهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه ، ولطف الله وفرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية