الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 258 ] فصل ( في إنكار المنكر الخفي والبعيد والماضي ) .

قال في الرعاية : ويحرم التعرض لمنكر فعل خفي على الأشهر ، أو مستور ، أو ماض ، أو بعيد ، وقيل : يجهل فاعله ، ومحله انتهى كلامه .

وقال أيضا ، والإنكار فيما فات ومضى إلا في العقائد والآراء قال القاضي في الماضي يشترط أن يعلم استمرار الفاعل على فعل المنكر ، فإن علم من حاله ترك الاستمرار على الفعل لم يجز إنكار ما وقع على الفعل ، كذا قال فإن كان مراده أنه ندم ، وأقلع وتاب ، فصحيح ، لكن هل يجوز في هذه الحال ويرفعه إلى ولي الأمر ليقيم الحد ؟ ينبني على سقوطه بالتوبة فإن اعتقد الشاهد سقوطه لم يرفعه وإلا رفعه ، وبين الحال كما قاله في المغني فيمن شهد برهن الرهن ثانيا على دين أخذه الراهن من المرتهن ، وجعله الراهن رهنا بهما .

وأما إذا كان مصرا على المحرم ولم يتب ، فهذا يجب إنكار الفعل الماضي وإصراره ، وهل يرفعه إلى ولي الأمر ؟ قد تقدم الكلام في وجوب الستر واستحبابه ، والتفرقة فيه ، ولهذا تقبل الشهادة عندنا بسبب قديم يوجب الحد في المشهور من المذهب ، فهذا إنكار ، وإقامة شهادة ، وعلل المنع بما روي عن عمر : إنما شهد لضغن ولم يعلل بأن الشاهد فعل ما لا يجوز .

وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم خيبتنا وأخرجتنا من الجنة } وفي لفظ : { تحاج آدم وموسى فقال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة } .

وفي لفظ { احتج آدم وموسى عند ربهما عز وجل فقال موسى : أنت آدم خلقك الله عز وجل بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم : أنت [ ص: 259 ] موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا ، فبكم وجدت الله عز وجل كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال موسى : بأربعين عاما قال آدم : فهل وجدت فيها : { وعصى آدم ربه فغوى } قال : نعم ، قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله عز وجل علي أن أعمله قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ } هو في الألفاظ كلها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فحج آدم موسى } وللبخاري في رواية { فحج آدم موسى ثلاثا } والمراد بقوله : أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ هذه الكتابة في التوراة كتصريح هذه الرواية ; لأن علم الله عز وجل وما قدره وأراده قديم ، وآدم مرفوع بالاتفاق أي : غلب فظهر بالحجة .

قال في شرح مسلم : ومعنى كلام آدم إنك يا موسى تعلم أن هذا كتب وقدر علي فلا بد من وقوعه فلا تلومني على ذلك ; لأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي ، وإذ تاب الله عز وجل على آدم ، وغفر له زال عنه اللوم ، فمن لامه كان محجوجا بالشرع . فإن قيل : فالعاصي منا لو قال : هذه المعصية قدرها الله عز وجل علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك ، وإن كان صادقا فيما قاله .

( فالجواب ) أن هذا العاصي باق في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم وغيرهما ، وفي زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل ، وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت ، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف ، وعن الحاجة إلى الزجر ، ففي القول إيذاء له ، وتخجيل بلا فائدة انتهى كلامه .

وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : رحمة الله على موسى قال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لا لأجل كونها ذنبا ، ولهذا احتج عليه آدم عليه السلام بالقدر ، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مرادا بالحديث ، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له [ ص: 260 ] ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس ، وأيضا فإن آدم عليه السلام احتج بالقدر ، وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء .

وقال أيضا في كتاب الفرقان : وهذا الحديث قد ضلت به طائفتان طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله عز وجل لأجل القدر ، وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . ومن الناس من قال : إنما حجه ; لأنه أبوه أو لأنه قد تاب أو لأن الذنب كان في شريعة ، واللوم في أخرى ، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة ، وكل هذا باطل ، ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم إياه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة ، فقال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ، لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا ، وتاب منه فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام ، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } .

والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم ، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } : فأمره بالصبر على المصائب ، والاستغفار من المعائب انتهى كلامه .

وهو وكلام غيره يدل على أن الذنب الماضي يلام صاحبه وينكر عليه إذا لم يتب وقد تقدم ذكر الذي في شرح مسلم .

ونص الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية عبد الله والمروذي وأبي طالب وغيرهم في الطنبور ووعاء الخمر وأشباه ذلك يكون مغطى لا نعرض له ، ونص في رواية إسحاق ، ومحمد بن أبي حرب أيضا على أنه ينكره ويتلفه . [ ص: 261 ]

وقال أبو الحسين : هل يجب إنكار المغطى ؟ على روايتين أصحهما : يجب ; لأنا تحققنا المنكر . ( الثانية ) : لا يجب كأهل الذمة إذا أظهروا الخمر أنكر عليهم ، وإذا ستروه لم يتعرض لهم ، وكذا في الترغيب أنه يجب في أصح الروايتين .

وفي معتقد ابن عقيل : ولا يكشف من المعاصي ما لم يظهر ، وكذا قال ابن الجوزي : من تستر بالمعصية في داره ، وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي ، وإن فاحت روائح الخمر ، فالأظهر جواز الإنكار وسيأتي كلام ابن عقيل فيه في فصول اللباس .

قال ابن الجوزي : قال المفسرون والتجسس البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم ، فالمعنى لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذا ستره الله عز وجل . وقيل لابن مسعود : هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا قال : إنا نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذ به انتهى كلامه .

وقال عبد الكريم بن الهيثم العاقولي : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار لا يعرف مكانه ، فقال : وما عليك وما غاب عنك ؟ فلا تفتش . ونقليوسف وغيره وما عليك إذا لم تعرف مكانه .

وقال محمد بن أبي حرب : سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه ، قال : يأمره فإن لم يقبل يجمع عليه ويهول عليه .

ونقل جعفر فيمن يسمع صوت الغناء في الطريق . قال : هذا قد ظهر ، عليه أن ينهاهم ورأي أن ينكر الطبل يعني إذا سمع صوته . وقيل له : مررنا بقوم قد أشرفوا من علية لهم يغنون فجئنا صاحب الخبر أخبرناه فقال : لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم ؟ فقيل : لا ، قال : كان يعجبني أن تكلموا ، ثم قال : لعل الناس كانوا يجتمعون وكانوا يشهرون . وهذا معنى ما ذكره الأصحاب في باب الوليمة أنه لزم القادر الحضور والإنكار ، وإلا لم يحضر وانصرف . [ ص: 262 ]

وقال القاضي في المعتمد : ولا يجب على العالم والعامي أن يكشف منكرا قد ستر ، بل محظور عليه كشفه لقول الله تعالى : { ولا تجسسوا } .

وقال الشيخ تقي الدين : ومن كان قادرا على إراقة الخمر وجب عليه إراقتها ، ولا ضمان عليه ، وأهل الذمة إذا أظهروا الخمر ، فإنهم يعاقبون عليه أيضا بإراقتها ، وشق ظروفها وكسر دنانها ، وإن كنا لا نتعرض لهم إذا أسروا ذلك بينهم . وهذا ظاهر في إنكار المنكر المستور ، ولم نجد فيه خلافا ، ومعناه كلام صاحب النظم ، قال في الرعاية بعد كلامه السابق : وقيل : من علم منكرا قريبا منه في دار ونحوها دخلها ، وأنكره .

وقال صاحب النظم : المستتر من فعله بموضع لا يعلم به غالبا إما لبعده أو نحوه غير من حضره ويكتمه ، وأما من فعله بموضع يعلم به جيرانه ، ولو في داره فإن هذا معلن مجاهر غير مستتر .

التالي السابق


الخدمات العلمية