الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( ما صح من الأحاديث في اتقاء النار باصطناع المعروف والصدقة ولو بشق تمرة ) .

قد ذكرت ما صح عنه عليه السلام { اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فكلمة طيبة } وقوله عليه السلام { ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق } وقوله عليه السلام { لكل معروف صدقة } قال ابن عباس : ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلا أضاء ما بينه وبيني ، ولا رأيت رجلا فرط إليه مني شيء إلا أظلم ما بيني وبينه ، .

وقال ابن عباس أيضا : المعروف أميز زرع ، وأفضل كنز ، ولا يتم إلا بثلاث خصال : بتعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجل فقد هنأ وإذا صغر فقد عظم ، وإذا ستر فقد تمم .

وقال زيد بن علي بن حسين : ما شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه ، وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ، ولا كل من قدر عليه يؤذن له فيه ، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمت السعادة للطالب والمطلوب منه .

وقال الشاعر وهو زهير :

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يقيه ومن لا يتقي الشتم يشتم

[ ص: 310 ] وقال بعضهم : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه ، وكان يقال في كل شيء إسراف إلا في المعروف وكان يقال لا يزهدنك في اصطناع المعروف دمامة من تسديه إليه ، ولا من ينبو بصرك عنه ، فإن حاجتك في شكره ووفائه لا في منظره ، وكان يقال : اصنع المعروف إلى كل أحد فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه ، وإن لم يكن من أهله كنت أنت من أهله ، قال الشاعر :

ولم أر كالمعروف أما مذاقه     فحلو وأما وجهه فجميل



كان يقال : من أسلف المعروف كان ربحه الحمد وقال عمرو بن العاص : رضي الله عنه في كل شيء سرف إلا في إتيان مكرمة أو اصطناع معروف أو إظهار مروءة ، وقد قيل أيضا : كان يقال كما يتوخى للوديعة أهل الأمانة والثقة كذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر ، وكان يقال : إعطاء الفاجر يقويه على فجوره ، ومسألة اللئيم إهانة للعرض ، وتعليم الجاهل زيادة في الجهل ، والصنيعة عند الكفور إضاعة للنعمة ، فإذا هممت بشيء من هذا فارتد الموضع قبل الإقدام عليه أو على الفعل .

وذكر ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن الصنيعة لا تكون إلا في ذي حسب أو دين كما أن الرياضة لا تكون إلا في نجيب } .

وذكر ابن عبد البر في مكان آخر : خمسة أشياء أضيع شيء في الدنيا : سراج يوقد في الشمس ، ومطر وابل في أرض سبخة ، وامرأة حسناء تزف إلى عنين ، وطعام يستجاد ثم يقدم إلى سكران أو شبعان ، ومعروف تصنعه عند من لا يشكرك ، وفي التوراة مكتوب : افعل إلى امرئ السوء يجزيك شرا وكان يقال : صاحب المعروف لا يقع فإذا وقع أصاب متكئا .

وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر : املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها ، وطلبك ذلك منها بإحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك ، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطاها إلى القلوب بالمعروف ، واعلم أن [ ص: 311 ] الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل ، فاجتهد أن لا تقول ، تسلم من أن تفعل .

وقال معاوية رضي الله عنه ليزيد ابنه : يا بني اتخذ المعروف منالا عند ذوي الأحساب تستمل به مودتهم وتعظم في أعينهم ، وإياك والمنع فإنه ضد المعروف فإنه يقال حصاد من يزرع المعروف في الدنيا اغتباط في الآخرة . ذم أعرابي رجلا فقال : كان سمين المال مهزول المعروف .

وقال الزهري أو الزبيري : من زرع معروفا حصد خيرا ، ومن زرع شرا حصد ندامة .

قال الشاعر :

من يزرع الخير يحصد ما يسر به     وزارع الشر منكوس على الراس

وقال ابن المبارك :

يد المعروف غنم حيث كانت     تحملها شكور أو كفور
ففي شكر الشكور لها جزاء     وعند الله ما كفر الكفور



وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول أسرع الذنوب عقوبة كفر المعروف . ولابن دريد وقيل : إنه أنشدهما

وما هذه الأيام إلا معارة     فما اسطعت من معروفها فتزود
فإنك لا تدري بأية بلدة     تموت ولا ما يحدث الله في غد



وقال بزرجمهر : خير أيام المرء ما أغاث فيه المضطر ، وارتهن فيه الشكر ، واسترق فيه الحر .

جمع كسرى مرازبته وعيون أصحابه فقال لهم : على أي شيء أنتم أشد ندامة ؟ فقالوا على وضع المعروف في غير أهله ، وطلب الشكر ممن لا شكر له . قال الشاعر :

وزهدني في كل خير صنعته     إلى الناس ما جربت من قلة الشكر

[ ص: 312 ] وقال :

ومن يجعل المعروف مع غير أهله     يلاق الذي لاقى مجير أم عامر

قال المهلب : عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه وقال : ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حرا تملكه .

وقال المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته     وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقال عبد مناف : دواء من لا يصلحه الإكرام الهوان . قال الشاعر :

من لم يؤدبه الجميل     ففي عقوبته صلاحه

وقال ابن عقيل في الفنون : فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ، كما لا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، لا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها ، كذلك البر والإنعام مفسد لقوم حسب ما يفسد الحرمان قوما ، قال : فهو كالنار كلما أطيب لها مأكلا سطت فأفسدت قال فرقد قال المتنبي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا     مضر كوضع السيف في موضع الندى

فالسياسة الكلية افتقاد محال الإنعام قبل الإنعام ، وقال علي رضي الله عنه : كن من خمسة على حذر من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته ، وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق إذا مازحته ، وفاجر إذا مازجته . انتهى كلامه ويأتي في آخر كراسة في الكتاب ما يتعلق بهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية