الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 337 ] فصل ( في أحكام رد السلام المسنون ) .

ورد السلام فرض كفاية ، وهو مذهب أهل الحجاز ، وهذا من أصحابنا يدل على أنه لا يجب رد السلام ولا يسن ولعله غير مراد لأنهم أطلقوا وجوب رد السلام ، لا سيما وسيأتي كلام صاحب النظم أول الفصل الخامس ويأتي كلام الشيخ وجيه الدين فيما إذا بدأ بصيغة الجواب أنه لا يستحق جوابا لكونه بدأ بالجواب فدل أنه إذا أتى بصيغة الابتداء لزم الرد ، اللهم إلا أن يكون الابتداء مكروها والظاهر أنه مراد الأصحاب بقولهم المسنون .

وقد عرف من المسائل السابقة في الفصل قبله أن حكم الرد حكم الابتداء ، ولا يخالف هذا إلا كلامه في الرعاية : يكره على المتخلي لا رده .

وقال : أبو حفص في الأدب له قال : أبو عبد الله محمد بن حمدان العطار : سئل أبو عبد الله أحمد بن حنبل عن رجل مر بجماعة فسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام ؟ فقال : يسرع في خطاه لا تلحقه اللعنة مع القوم ، وقيل بل سنة ، وذكر ابن حزم وابن عبد البر والشيخ تقي الدين الإجماع على وجوب الرد .

وذكر ابن عبد البر أن أهل العراق جعلوه فرضا متعينا على كل واحد من الجماعة المسلم عليهم ، وحكاه غيره عن أبي يوسف ، وحكاه صاحب المحرر من أصحابنا عن الحنفية ، ذكره في تسليم الخطيب في الجمعة .

وقال الحنفية : ولا يجب رد سلام السائل على باب الدار لأنه يسلم لشعار سؤاله لا للتحية ، ويجزي سلام واحد من جماعة ورد أحدهم . وقد تقدم ، ويشترط أن يكونوا مجتمعين فأما الواحد المنقطع فلا يجزي سلامه عن سلام آخر منقطع ، كذا ذكره ابن عقيل وظاهر كلام غيره خلافه .

قال علي رضي الله عنه مرفوعا : { يجزي عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزي عن الجلوس أن يرد أحدهم . } رواه أبو داود من رواية [ ص: 338 ] سعيد بن خالد الخزاعي . ضعفه أبو زرعة وقال البخاري : فيه نظر .

وفي موطإ مالك عن زيد بن أسلم مرسلا { وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عن الجماعة } .

قال صاحب المحرر : ورد السلام سلام حقيقة لأنه يجوز بلفظ سلام عليكم فيدخل في العموم ، ولأنه قد رد عليه مثل تحيته فلا تجب زيادة كزيادة القدر ، قال : وإنما لم يسقط برد غير المسلم عليهم لأنهم ليسوا من أهل هذا الفرض ، كما لا يسقط الأذان عن أهل بلدة بأذان أهل بلدة أخرى .

ويجوز السلام على الصبيان تأديبا لهم ، وهذا معنى كلام ابن عقيل . وذكر القاضي في المجرد وصاحب عيون المسائل فيها والشيخ عبد القادر أنه يستحب . وذكره في شرح مسلم إجماعا ، قال الشيخ تقي الدين : فأما الحدث الوضيء فلم يستثنوه ، فيه نظر ، وهو كما قال ، وهذه المسألة تشبه مسألة النظر إليه وهي مشهورة .

وقال أنس رضي الله عنه : { أتانا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن صبيان فسلم علينا } . والصبيان بكسر الصاد وضمها لغة . وعن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : { مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في نسوة فسلم علينا . } رواهما ابن ماجه وغيره .

وعن أنس رضي الله عنه { أنه مر على صبيان فسلم عليهم . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله . } متفق عليه .

وروى حديث شهر عن أسماء أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ، ولفظهم : قالت : { مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يوما ونحن عصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم } .

وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا { ليس منا من تشبه بغيرنا ، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالكف . } إسناد ضعيف رواه الترمذي وقال : إسناد ضعيف .

ورواه ابن المبارك عن ابن لهيعة فلم يرفعه ، انتهى كلامه . وإن صح فمحمول على الاكتفاء به بدل السلام .

وتزاد الواو في رد السلام . وذكر الشيخ وجيه الدين في شرح الهداية أنه واجب وهو قول بعض الشافعية ، والأول أشهر وأصح لأن في الصحيحين " إن آدم عليه السلام قال للملائكة : السلام عليكم . فقالوا له : عليك السلام [ ص: 339 ] ورحمة الله " . وسيأتي ذلك ولأنه دليل على الوجوب . واحتج في شرح مسلم على عدم وجوبها بقوله سبحانه وتعالى : { قالوا سلاما قال سلام } انتهى ما ذكره ، قيل هو مرفوع خبره مبتدأ محذوف ، أي : قولي سلام أو جوابي أو أمري ، وقيل هو مبتدأ والخبر محذوف ، أي : سلام عليكم ، وأما النصب فقيل : مفعول به محمول على المعنى ، كأنه قال ذكروا سلاما ، وقيل هو مصدر ، أي : سلموا سلاما .

ولا يقال : سلم الله عليكم ولا سلم الله عليك ، وكأنه سببه أنه إخبار عن الله عز وجل بالتسليم وهو كذب ، وفيه نظر بل هو إنشاء ، كقولك صلى الله عليه ، ولعل مراد من ذكر المسألة أن الأولى ترك قول ذلك ، والإتيان بالسلام على الوجه المعروف المشهور لا أن قول ذلك يكره أو لا يجوز . ويأتي في الفصل الخامس أن أحمد رضي الله عنه قاله ردا لسلام غائب نظر إلى معنى السلام ، ولعل هذا أولى مع أنه خلاف الأولى .

وآخره ورحمة الله وبركاته ابتداء وأداء ولا تستحب الزيادة على ذلك ، قاله ابن عقيل قال أحمد في رواية حبيش بن سندي وسئل عن تمام السلام ، فقال وبركاته .

وفي الموطأ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن السلام انتهى إلى البركة .

قال القاضي : ويجوز أن يزيد الابتداء على لفظ الرد ، والرد على لفظ الابتداء إلا أن الانتهاء في ذلك إلى البركات وهو ظاهر كلام غيره ويتوجه ، وهو ظاهر كلام بعضهم أنه يجب مساواة الرد للجواب أو أزيد لظاهر الآية ، ولعله ظاهر كلام أبي البركات السابق في أول الفصل .

وروى أبو داود من حديث معاذ بن أنس { أن رجلا جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ، قال : أربعون وقال [ ص: 340 ] هكذا تكون الفضائل } وهو خبر ضعيف وخلاف الأمر المشهور ويسن أن يتركه المبتدئ بالسلام ليقوله الراد عليه ، ذكره ابن عقيل وابن تميم وابن حمدان .

وقال أبو زكريا النووي يستحب أن يقول المبتدئ : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا ، ويقول المجيب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

وقد روى أبو داود والترمذي وحسنه عن عمران قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم ، فرد عليه ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عشر ، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله . فرد عليه فجلس فقال : عشرون ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فرد عليه فجلس فقال : ثلاثون } . قال أبو داود ( باب كيف السلام ) ثم روى هذا الحديث بإسناد جيد والذي قبله بإسناد ضعيف ، وهذا أظهر أن يأتي به المبتدئ كاملا وهذا مقتضى كلام أبي داود .

وكذا قال الشيخ وجيه الدين من أصحابنا : أكمله ذكر الرحمة والبركة ابتداء وكذا الجواب ، وأقله السلام عليك وأوسطه ذكر الرحمة أو عليكم ، إن كانوا جماعة ، فإن كان واحدا فنوى ملائكته قال سلام عليكم .

وصح عن أبي هريرة قال { خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب وهو يصلي فقال يا أبي فالتفت ثم لم يجبه ثم صلى أبي فخفف ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله قال وعليك [ ص: 341 ] ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ } وذكر الحديث . قال ابن عبد القوي رحمه الله في كتابه ( مجمع البحرين ) : وفيه دليل على جواز قول الراد للسلام وعليك بحذف المبتدإ ، انتهى كلامه . وكذا رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ذر وهو في الصحيحين في فضائله ، وهذا أحد الوجهين للشافعية قالوا : وهذا فيما إذا أتى بالواو .

فأما إن قال : عليك أو عليكم لم يجزئه ، وأصحابنا تصريحا وتعريضا على أنه لا يجوز ، وقال الشيخ تقي الدين : فإن اقتصر الراد على لفظ وعليك كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي وهو مقتضى الكتاب فإن المضمر كالمظهر إلا أن يقال : إذا وصله بكلام فله الاقتصار بخلاف ما إذا سكت ، ولولا أن الرد الواجب يحصل به لما أجزأ الاقتصار عليه في الرد على الذمي .

ومقتضى كلام ابن أبي موسى وابن عقيل لا يجوز ، وكذلك قال الشيخ عبد القادر انتهى كلامه . ومقتضى أخذه من الرد على الذمي أن يجزئ ، ولو حذف الواو وقال الشيخ عبد القادر : فإن قال سلام ، لم يجبه ويعرفه أنه ليس بتحية الإسلام لأنه ليس بكلام تام وقد تقدم معناه ، ويتوجه من الاكتفاء برد وعليك أنه يحتمل أن يرده .

وقال ابن الأثير في النهاية : يقال : السلام عليكم وسلام عليكم وسلام بحذف عليكم ، قال : وكانوا يستحبون تنكير الابتداء وتعريف الجواب ، ويكون الألف واللام للعهد يعني السلام الأول .

وقال ابن حزم اتفقوا على أن المار من المسلمين على الجالس أو الجلوس منهم أن يقول : السلام عليك أو السلام عليكم ، واتفقوا على إيجاب الرد بمثل ذلك .

[ ص: 342 ] فصل ( في " حديث " حذف السلام سنة ) .

قال إسحاق بن إبراهيم : إن أبا عبد الله سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم " حذف السلام سنة " قال أبو عبد الله : هذا أن يجيء الرجل إلى القوم فيقول : السلام عليكم ، ومد بها أبو عبد الله صوته شديدا ، ولكن ليقل السلام عليكم ، وخفف أبو عبد الله صوته ، قال : يقول هكذا ، قال المروذي : ورأيت أبا عبد الله إذا خرج علينا سلم وإذا أراد أن يقوم سلم .

وفي الخبر الصحيح المشهور من حديث أبي هريرة رضي الله عنه { إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، وليست الأولى بأحق من الآخرة } . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية