الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 357 ] فصل ( في طائفة أخرى من نوابغ الكلم ، ونوابغ الحكم وكتب البلغاء ) .

قال أبو جعفر النحاس عن الكتاب قال وهم يعيبون تكرير الألفاظ وليس ذلك عند كثير من أهل اللغة كما يذهبون إليه ، وقد يقع من ذلك التوكيد وغيره قال بشر بن النعمان إياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقد ، والتعقد هو الذي يستهلك معانيك ، ويمنعك مراميك .

وممن كان يستعمل حواشي الكلام أبو علقمة النحوي وهذا مستثقل من كل متعمد ، فأما من لا يتعمد من الفصحاء والمتقدمين فإن ذلك مستحسن منهم ، وأنشد عمرو بن بحر :

حمار في الكتابة يدعيها كدعوى آل حرب من زياد     فدع عنك الكتابة لست منها
ولو غرقت ثوبك بالمداد



وروي عن علي أنه كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما : أما بعد فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فما نلت من دنياك فلا تكن به فرحا وما فاتك فلا تأس عليه حزنا ، وليكن سرورك فيما قدمت ، وأسفك على ما أخرت ، وهمك لما بعد الموت .

وكتب سالم إلى بعض الولاة : أما أنا فمعترف بالتقصير في شكرك عند ذكرك ، ليس ذاك لتركي إياه في مواضعه ، ولكن لزيادة حقك على ما يبلغه جهدي . وأهدى بعضهم طيبا وكتب : الثقة بك سهلت السبيل إليك ، فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم .

وأهدى بعضهم إلى المأمون قارورة فيها دهن أترج ، وكتب إليه إذا [ ص: 358 ] كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت كانت أبلغ وأوصل ، فإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت كان أجزل لها وأخطر .

وكتب الحسن بن سهيل إلى أخ له يعزيه مد الله في عمرك موفورا غير منتقص ، وممنوحا غير ممتحن ، ومعط غير مستلب . وعزى أبو العتاهية الفضل بن الربيع بابنه فقال الحمد لله الذي جعلنا نعزيك عنه ولا نعزيه عنك فدعا بالطعام وقد كان امتنع منه .

وكتب بعضهم أطال الله في دوام العز والكرامة بقاءك ، وأسبغ النعمة مدتك ، وأحاط الدين والمروءة بحفظه دولتك ، وجعل إلى خير عواقب الأمور عاقبة أمرك ، وعلى الرشد والتوفيق واقع قولك وفعلك ، ولا أخلى من السلطان مكانك ، ومن الرفعة منزلتك .

وكتب أيضا وأنا أسأل الله الذي يعلم السر وأخفى ، راغبا إليه بسريرة يعلم صحتها ، ونية يشهد على صدقها أن يشفع إحسانه إلي وجميل بلائه لدي ، بطول بقائك ، إمتاعي بما وهب لي من ربك على الاستحقاق دون الهوى ، وتمام شروط الود دون التجاوز والإغضاء . وكتب أيضا : أراك الله في وليك ما يسرك به ، وفي عدوك ما يعطفك عليه .

قال أبو جعفر ومن المتقدمين في البلاغة محمد بن مهران الكاتب ولقد كان علي بن سليمان يقول إن رسائله تطربني كما يطربني الغناء ، فمن مستحسن فصوله ورسائله فصل له يعزيه : ومن صدق نفسه هانت عليه المصائب ، وعلم أن الباقي تبع للماضي ، حتى يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، وله لي أبي نجدة الشاعر : أما الشعر فلسنا نساجلك فيه ، ولا نركب مضمارك فيما قل أو كثر منه ، إلى أن قال لأنا نرى الاعتراف للمبرز فضيلة ، وغموض حقه نقيصة ، وله أيضا قد انقضت أيام أهل الأدب وأفلت نجومهم ، حتى صاروا غرباء في أوطانهم ، منقطعي الوصل والوسائل ، ترتد عنهم الأبصار ، وتنبو عنهم القلوب ، وإذا شاموا مخيلة مثلك ممن يحسن تألفهم ورفدهم ، ويرعى وسائلهم ثلجت صدورهم [ ص: 359 ] وانبسطت آمالهم ، وأمسك ذلك بحشاشات قد نهكها سوء بلاء الزمان ، فزادك الله من فضله وزاد بك . وله أيضا وأنا منتظر من نصر الله عز وجل على هذا الباغي وانتقامه من الظالم ما ليس ببعيد وإن كان قوم مستدرجين بالإمهال فإن وعد الله عز وجل ناجز وهو من وراء كل ظالم .

وكتب بعض من ينتسب إلى إيجاز القول وحسن النظم والبلاغة في السجع إلى بعضهم كتابي إليك ليس باستبطاء ، وإمساكي عنك ليس باستغناء ، لكنه تذكرة لك ، وإمساكي ثقة بك ، وكتب هذا الرجل إلى المأمون إنك ممن إذا أسس بنى ، وإذا غرس سقى ، ليستتم بناء أسه ، ويجتني ثمار غرسه ، وأشك في بري قد وهي وقارب الدروس ، وغرسك في حفظي قد عطش وشارف اليبوس ، فتدارك ما أسست ، واسق ما غرست فأمر له بمائة ألف درهم .

قال يحيى بن خالد : رسائل المرء في كتبه أدل على مقدار عقله ، وأصدق شاهدا على غيبه لك ومعناه فيك من أضعاف ذلك على المشافهة والمواجهة . كتب رجل إلى أخ له قد كنت أحب أن لا أفتتح مكاتبتك بذكر حاجة إلا أن المودة إذا خلصت سقطت الحشمة ، واستعملت الدالة .

ولآخر : إن من صغر الهمة ، الحسد للصديق على النعمة . كتب آخر كفاك من القطيعة لي سوء ظنك بي .

وكتب آخر قد سبق جميل وعدك إياي ما أنت أهله وتأخر الأمر تأخرا دلني على زهدك في الصنيعة عندي ، ولولا أن النفس اللجوج تطالبني ببلوغ آخر الأمر ، لتنصرف عن الطمع بواضح العذر ، لكان فيما عاينت من التقصير أدل دليل على ضعف العناية ، ولقد حمدت الله إذا لم أخبر بمسألتي وضمانك أحدا ، فأكون في وقتي هذا إما كاذبا فيما حكيته ، وإما شاكيا ، بعد أن عرفت لك شاكرا ، ولست أنتقل من شكر إلى ذم ، ولا أرغب من علي إلى خلق دني ، فيسر حسود ، ويساء ودود ، ولكني أركب طريقا بين شكرك على ما يسره المقدار على يدك ، وبين عذرك على ما عسره عليك [ ص: 360 ] غير مخلف ولا مجحف . ولغيره فإن الله بحمده نزه الإسلام عن كل قبيحة ، وأكرمه عن كل رذيلة ورفعه عن كل دنيئة ، وشرفه بكل فضيلة ، وجعل سيما أهله الوقار والسكينة .

وكتب آخر قد أغنى الله عز وجل بكرمك عن ذريعة إليك وما تنازعني نفسي إلى استعانة عليك ، إلا أبى ذلك حسن الظن بك ، وتأميل نحج للرغبة إليك دون الشفعاء عندك ولغيره حتى إذا نزل الجمعان تبرأ الشيطان من حزبه ، وأزهق الله باطلهم بحقه ، وجعل الفتح والظفر لأولى الحزبين به ، وبذلك جرت سنة الله عز وجل في الماضين من خلقه ، وبذلك وعد من تمسك بأمره وطاعته ، ولغيره : أما بعد فإن أولى نعمة تشكر سلامة شملت ، عز فيها الحق فوقع مواقعه ، وذل الباطل فقمع أشياعه ، وتقلب في سربها وأمنها خاصة وعامة ، وانبسط في تأميل فضلها وعاقدتها رغبة حاضرة وقاصية .

وكتب آخر : كتبت وأنا ذو صبابة توهي قوي الصبر إلى لقائك واستراحة ليس إلا إلى طيب إخبارك منتهاها . وكتب آخر كتبت عن سلامة ووحشة لفراقك ، وبعد البلد الذي يجمع السادة والإخوان ، والأهل والجيران على حسب الأمر كان بمكاني فيه ، والسرور به ، ولكن المقدار يجري فينصرف معه ، وقع ذلك بالهوى أو خالفه ، ولئن كانت هذه حالي في الوحشة أن أكثر ذلك وأوفره لفراقك وما بعدنا عنه من الأنس بك ، فأسأل الله أن يهب لنا اجتماعا عاجلا في سلامة من الأبدان والأديان ، وغبطة من الحال ، وغنى عن المطالب برحمته وله كتابي ، والله عز وجل يعلم وحشتي ولا أوحشك الله من نعمة ، ولا فرق بينك وبين عافيته وكان مما زاد في الوحشة أنها جاوزت الأمل المتمكن في الأنس بقرب الدار ، وتداني المزار ، نحمد الله على نعمة ، ونستديمه لنا فيك أجمل بلائه ، ونسأله أن لا يخلينا وإياك من شكره ومزيده ، ولو كتبت في كل يوم كتابا . [ ص: 361 ]

بل لو شخصت نحوك قاصدا ، لكان ذلك دون الحق لك ، ولكني علق بما تعلمه من العمل ، وأكره أن أتابع كتبي وأسلك سبيلا من الثقل فأنا واقف بمنزلة متوسطة أرجو أن أسلم من الجفاء والإبرام ، وأنا وإن أبقيته عليك من الزيادة في شغلك ، فلست بممتنع من سؤالك التطول بتعريفي جملة من خبرك ، أسكن إليها ، وأعتد بالنعمة فيها وأحمد الله عليها .

وكتب آخر أما بعد فإن من قضى الحاجات لإخوانه واستوجب الشكر عليهم ، فلنفسه عمل لا لهم ; لأن المعروف إذا وضع عند من شكره فهو زرع لا بد لزارعه من حصاده ، أو لعقبه من بعده . وكتب آخر : لا تتركني معلقا بحاجتي ، فالصبر الجميل خير من المطل الطويل .

( تعزية ) إذا استوى المعزي والمعزى في النائبة ، استغنى عن الإكثار في الوصف لموضع الرزية وكان ظهوره يغني عن التنبيه عليه ، وإن لله وإنا إليه راجعون ، إقرارا بالملك له ، واعترافا بالمرجع إليه ، وتسليما لقضائه ، ورضا بمواقع أقداره ، وأسأل الله أن يصلي على محمد صلوات متصلة بركاتها ، وأن يوفق لما يرضيه عنك قولا وفعلا حتى يكمل لك ثواب الصابرين المحتسبين ، وأجر المطيع الممتحن للوعد ، فرحم الله فلانا وأنزله منازل أوليائه الذين يرضى سعيهم ، ويطول بفضله عليهم ، إنه ولي قدير .

كتب آخر : إن الله عز وجل بتمكينه إياك في النعمة ، وإعلائه يدك بالقدرة ، وصل بك آمال المؤملين ، وخص بجميل الحظ منك أهل المروءة والدين ، وقد حللنا بفنائك ، وأملنا حسن عائدتك ، ورجونا أن تودعنا من معروفك ما تجد عندنا شكره ، والوفاء بما تسدي إلينا منه ، وأنت بين صنيعة مشكورة ومثوبة مذخورة ، فإن رأيت أن تصغي إلينا بكرمك ، وتخلطنا بعددك ، وتجعل لنا من لحظات برك ، بحيث يشملنا فضلك ، ويسعنا طولك ، فعلت إن شاء الله انتهى ما ذكره أبو جعفر النحاس .

التالي السابق


الخدمات العلمية