الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
ونقل المروذي عن أحمد قال : العالم يقتدى به ، ليس العالم مثل الجاهل وهذا معنى ما روي عن ابن المبارك وغيره . ونقل عن أحمد أيضا إنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال لعبد الوهاب يعني الوراق فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .

وقال ابن عقيل في الفنون لا ينبغي الخروج من عادات الناس إلا في الحرام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكعبة وقال { لولا حدثان قومك الجاهلية } [ ص: 44 ] وقال عمر لولا أن يقال عمر زاد في القرآن لكتبت آية الرجم .

وترك أحمد الركعتين قبل المغرب لإنكار الناس لها ، وذكر في الفصول عن الركعتين قبل المغرب وفعل ذلك إمامنا أحمد ثم تركه بأن قال رأيت الناس لا يعرفونه ، وكره أحمد قضاء الفوائت في مصلى العيد وقال : أخاف أن يقتدي به بعض من يراه .

وروى البيهقي وغيره من طريق شعيب عن نافع عن أسلم أن عمر رأى على طلحة ثوبا مصبوغا فقال ما هذا ؟ قال : إنه يمدر ، فقال إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ، وإن جاهلا لو رأى هذا لقال على طلحة ثوب مصبوغ فلا يلبس أحد منكم من هذه الثياب شيئا إنه محرم وقال الأوزاعي كنا نمزح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم وقال الثوري لو صلح القراء لصلح الناس وقال أيضا يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفيا لأن الآفات أسرع إليهم وألسنة الناس إليهم أسرع وإذا احتال ذل .

وقال أبو داود السجستاني من اقتصر على لباس ومطعم دون أراح جسده وقال الأعمش عن زيد بن وهب رأيت بين كتفي عمر أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وقال مالك عن إسحاق بن عبد الله عن أنس رأيت عمر رضي الله عنه وهو يومئذ أمير المؤمنين قد رقع بين كتفيه ثلاث رقاع لبد بعضها فوق بعض وقال سليمان بن حرب : لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تسوى عشرة دراهم . إزاره ورداؤه وقميصه ، كان شيخا كثير الصدقة وقال علي بن ثابت رأيت الثوري في طريق مكة فقومت كل شيء عليه حتى نعله درهما وأربعة دوانق .

وقال الثوري : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون ، ونهاره إذ الناس مفطرون ، وبكائه إذ الناس يضحكون ، وبحزنه إذ الناس يفرحون وقال الثوري العالم طبيب هذه الأمة ، والمال الداء فإذا كان الطبيب يجر الداء إلى نفسه كيف يعالج غيره ؟ وعن عيسى ابن مريم عليه السلام [ ص: 45 ] أنه قال : يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا .

وروى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن الفقه ليس بسعة الهذر وكثرة الرواية إنما الفقه خشية الله وروى أيضا عن أبي حازم قال : لا يكون العالم عالما حتى يكون فيه ثلاث خصال : لا يحقر من دونه في العلم ، ولا يحسد من فوقه ، ولا يأخذ دنيا .

وروى أيضا عن الحسن قال : الفقيه الورع الزاهد المقيم على سنة محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يسخر بمن أسفل منه ولا يهزأ بمن فوقه ولا يأخذ على علم علمه الله عز وجل حطاما وقال أيضا ما رأيت فقيها قط .

وروى البيهقي عنه كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده وقال ابن المبارك عن مالك بن دينار سألت الحسن ما عقوبة العالم قال : موت القلب قلت وما موت القلب قال : طلب الدنيا بعمل الآخرة وقال الأوزاعي : بلغني أنه يقال ويل للمتفقهين لغير العبادة ، والمستحلين المحرمات بالشبهات وقال مالك إن حقا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية ، وأن يكون متبعا لأثر من مضى قبله وقال الربيع سمعت الشافعي يقول : أخشى أن أطلب العلم بغير نية أن لا ينتفع به وقال الشافعي رضي الله عنه : زينة العلم الورع والحلم وقال أيضا لا يجمل العلم ولا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله ، وإصابة السنة ، والخشية .

وقال أيضا ليس العلم ما حفظ ، العلم ما نفع وقال أبو قلابة لأيوب إذا حدث لك علم فأحدث فيه عبادة ولا يكن همك أن تحدث به الناس وقال أحمد بن محمد سمعت وكيعا يقول : قالت أم سفيان الثوري : اذهب فاطلب العلم حتى أعولك أنا بمغزلي ، فإذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل في نفسك زيادة فابتغه وإلا فلا تتعنى .

وقال الفضيل بن عياض [ ص: 46 ] بلغني أن العلماء فيما مضى كانوا إذا تعلموا عملوا . وإذا عملوا ، شغلوا ، وإذا شغلوا فقدوا ، وإذا فقدوا طلبوا . وإذا طلبوا هربوا وقال عمر : تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن يعلمكم وتواضعوا لمن تعلمون ولا تكونوا من جباري العلماء فلا يقوم عملكم مع جهلكم .

وقالت عائشة : تغفلون عن أعظم العبادة . التواضع وقال الشعبي : اتقوا الفاجر من العلماء ، والجاهل من المتعبدين ، فإنه آفة كل مفتون وقال الثوري : نعوذ بالله من فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . ذكر ذلك البيهقي .

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله إن الله يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار . ويأتي الخبر في فصول كسب المال في الأئمة المضلين .

وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا { إني أخاف على أمتي من بعدي زلة العالم ، ومن حكم جائر ، وهوى متبع } .

وفي لفظ بهذا الإسناد { اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته } كثير كذاب متروك ، وهذا مذكور في ترجمته ، وقد صحح له الترمذي وعن زيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا إن { أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم ، فاتهموها على أنفسكم } يزيد ضعيف ولم يترك وقال داود بن أبي هند قال عمر بن الخطاب يفسد الناس ثلاثة : أئمة مضلون ، وجدال منافق بالقرآن والقرآن حق ، وزلة العالم .

وقد قال منصور عن شقيق عن أبي الدرداء رضي الله عنه : إني لآمركم بالأمر وما أفعله ولكن لعل الله أن يأجرني فيه قال البيهقي محمول على المستحبات أو أنه قاله على وجه التواضع وقال أبو داود الطيالسي ثنا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا عبد الله أتدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإن أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه } . قال البخاري في [ ص: 47 ] عقيل : منكر الحديث يروي عن أبي إسحاق ، وتكلم فيه ابن حبان وقال البيهقي : غير معروف قال ويمكن إجراء الخبر على ظاهره ويكون تركه العمل زلة منه تنتظر فيئته .

ولما حج سالم الخواص لقي ابن عيينة في السوق فأنكر عليه كونه في السوق فأنشد ابن عيينة :


خذ بعلمي وإن قصرت في عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري

وأما قول بعض المتأخرين :

خذ من علومي ولا تنظر إلى عملي     واقصد بذلك وجه الواحد الباري
وإن مررت بأشجار لها ثمر     فاجن الثمار وخل العود للنار

فالمراد إذا كان أهلا لأخذ العلم عنه ولكنه مقصر في العمل وإلا كان مردودا على قائله .

وقال في الرعاية في كتاب الجهاد ومن لزمه تعلم شيء وقيل أو كان في حقه فرض كفاية وقيل أو نفلا ولا يحصل له في بلده فله السفر في طلبه بغير إذن أبويه وبقية أقاربه ، انتهى كلامه .

وكلام أحمد السابق في رواية إسحاق بن إبراهيم يدل لهذا القول ، وغيرها عن أحمد يخالفها قال القاضي ومما يجب إنكاره ترك التعليم والتعلم لما يجب تعليمه وتعلمه نحو ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وبمعرفة الصلوات وجملة الشرائع وما يتعلق بالفرائض ويلزم النساء الخروج لتعلم ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { في الصبيان واضربوهم على تركها لعشر } فأولى أن يضرب المكلف على تعلم ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية