الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وواجب على الإمام أن يتعاهد المعلم والمتعلم كذلك ويرزقهما من بيت المال لأن في ذلك قواما للدين فهو أولى من الجهاد لأنه ربما نشأ الولد على مذهب فاسد فيتعذر زواله من قلبه . [ ص: 48 ]

وروى البيهقي من حديث الثوري عن منصور عن ربعي عن علي { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } قال : علموهم الخير .

وقد روى الخلال في أخلاق الإمام أحمد أنه قال خرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة فحممت فرجعت إلى أمي ولم أكن استأذنتها .

وقال الفضيل : العلماء ربيع الناس إذا رآهم المريض لا يشتهي أن يكون صحيحا ، وإذا رآهم الفقير لا يشتهي أن يكون غنيا ، وعن الشعبي قال شرار كل ذي دين علماؤهم غير المسلمين .

وروى الخلال أنبأنا محمد ثنا وكيع عن المسعودي عن القاسم قال : قال : عبد الله : كفى بخشية الله علما ، وبالاغترار بالله جهلا . وعن أبي الدرداء قال لا يكون الرجل عالما حتى يكون به عاملا .

وقالت : عائشة { ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينسب أحدا إلا إلى الدين } رواه أبو داود .

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم ، ولكنهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا عليهم رواه الخلال .

وروى ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من رواية معاوية بن سلمة البصري عن نهشل وهو كذاب متروك عندهم عن الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود قال لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا أهل زمانهم ولكنهم أتوا به أهل الدنيا فاستخفوا بهم .

سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول { : من جعل همومه هما واحدا كفاه الله سائر همومه . ومن تشعبت به الهموم وأحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك } .

وفي حواشي تعليق القاضي أبي يعلي ذكر المدائني في كتاب السلطان عن علي رضي الله عنه قال لو أن حملة العلم حملوه بحقه لأحبهم الله عز وجل وملائكته وأهل طاعته من خلقه . ولكن حملوه لطلب الدنيا فمقتهم الله وهانوا على الناس . [ ص: 49 ]

وقال مالك وجه إلي الرشيد أن أحدثه فقلت يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى ولا يأتي . فصار إلى منزلي فاستند معي على الجدار فقلت له يا أمير المؤمنين إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم ، فقام فجلس بين يدي قال فقال بعد مدة : يا أبا عبد الله تواضعنا لعلمك فانتفعنا به ، وتواضع لنا علم سفيان بن عيينة فلم ننتفع به .

وروي نحو ما روي عن مالك عن سليمان بن حرب مع طاهر بن عبد الله ، وروي أن طاهر بن عبد الله كان ببغداد فطمع أن يسمع من أبي عبيد وطمع أن يأتيه في منزله فلم يفعل أبو عبيد فقدم علي بن المديني وعباس العنبري فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما فيه .

وروى البيهقي وغيره أن المهدي لما قدم المدينة حاجا جاءه مالك فسلم عليه فأمر المهدي ابنه موسى الهادي وهارون الرشيد أن يسمعا منه فطلباه إليهما فامتنع فعاتبه المهدي في ذلك فقال : يا أمير المؤمنين إن للعلم نضارة يؤتى أهله .

وفي رواية : العلم أهل أن يوقر ويؤتى أهله ، فأمرهما والدهما بالمصير إليه ، فسأله مؤدبهما أن يقرأ عليهما فقال : إن أهل هذه البلدة يقرءون على العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم ، فإذا أخطئوا أفتاهم ، فرجعوا إلى الخليفة فعاتبه المهدي في ذلك فقال يا أمير المؤمنين سمعت ابن شهاب يقول سمعنا هذا العلم من رجال في الروضة وهو يا أمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ونافع مولى ابن عمر وابن هرمز ، ومن بعدهم أبو الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد وابن شهاب كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرءون ، فقال المهدي : في هؤلاء قدوة ، صيروا إليه فاقرءوا عليه ، ففعلوا .

وقال سفيان بن عيينة لو أن أهل العلم طلبوه لما عند الله لهابهم الناس ولكن طلبوا به الدنيا فهانوا على الناس وقال سفيان : ما زال العلم عزيزا حتى حمل إلى أبواب الملوك وأخذوا عليه أجرا فنزع الله الحلاوة من [ ص: 50 ] قلوبهم ومنعهم العمل به .

وقال ابن الجوزي ينبغي للعالم أن يصون العلم ولا يبذله ولا يحمله إلى الناس خصوصا إلى الأمراء ، وروي عن القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني أنه أنشد لنفسه :

يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما     أرى الناس من داناهم هان عندهم
ومن لزمته عزة النفس أكرما     ولم أقض حق العلم إن كان كلما
بدا طمع صيرته لي سلما     وما كل برق لاح لي يستفزني
ولا كل من في الأرض أرضاه منعما     إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما     ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما     أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة
إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما     ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعظما     ولكن أذلوه فهان ودنسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما



وأرسل محمد بن سليمان أمير البصرة إلى حماد بن سلمة يطلب منه الحضور إليه لأجل مسألة وقعت له فأرسل إليه حماد إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا ، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك . والقصة مشهورة وفيها أن محمد بن سليمان جاء فجلس بين يديه ثم ابتدأ فقال : مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا ؟ فقال حماد : سمعت ثابتا البناني يقول : سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء ، وإذا أراد أن يكثر به الكنوز هاب من كل شيء } والقصة طويلة وفيها أنه عرض عليه أربعين ألف درهم فلم يقبلها لنفسه ولا ليقسمها ويفرقها .

وأنشد بعضهم :

إذا شئت أن تستقرض المال منفقا     على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها     عليك وإرفاقا إلى زمن اليسر
فإن فعلت كنت الغني وإن أبت     فكل منوع بعدها واسع العذر

[ ص: 51 ] وقال أبو الحارث لأبي عبد الله فترى الرجل أن يرحل لطلب العلم قال نعم قد رحل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم .

وروى عنه الخلال أنه سئل عن رجل يقيم ببلدة وينزل في الحديث درجة قال ليس طلب العلم هكذا لو طلب العلم هكذا مات آثما ، يؤخذ العلم عن الأكابر .

وعن سعيد بن المسيب قال إن كنت لأسافر مسيرة الليالي والأيام في الحديث الواحد وقال أبو قلابة لقد أقمت بالمدينة ثلاثة أيام ما لي حاجة إلا رجل يقدم عنده حديث فأسمعه . وعن الشعبي قال لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فسمع كلمة تنفعه فيما يستقبل من أمره ما رأيت سفره ضاع .

وفي الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي { ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ، عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها } ثم قال الشعبي : خذها بغير شيء فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة يعني من الكوفة . وأشار البخاري إلى حديث عبد الله بن أنيس وإن جابرا رحل إليه شهرا في حديث واحد . وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه ابتاع بعيرا وسار شهرا إلى عبد الله بن أنيس ، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى يوم القيامة : أنا الله أنا الملك أنا الديان } . وذكر الحديث . وقد رحل الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قديما وحديثا تقبل الله تعالى منهم . وعن عمران بن حصين قال : { دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت فآتاه ناس من بني تميم فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا : بشرتنا فأعطنا ، مرتين ، فتغير وجهه ، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا : قبلنا يا رسول الله ، قالوا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر قال [ ص: 52 ] كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت ، فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم . }

قال ابن هبيرة : فيه الرحلة في طلب العلم ، وجواز السؤال عن كل ما لا يعلمه ، وجواز العدول عن سماع العلم إلى ما يخاف فواته ; لأن عمران قام عن المجلس لأجل ناقته فلم ينكر عليه ، وجواز إيثار العلم على ذلك لقول عمران وددت أنها ذهبت ولم أقم .

وقال مهنا سألت أحمد عن حديث معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الجاهلين وإبطال البطالين ، وتأويل الغالين } فقلت لأحمد هو كلام موضوع ؟ قال لا ، هو صحيح ، فقلت له سمعته أنت ؟ قال : من غير واحد ، قلت من ؟ قال حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن معاذ عن القاسم بن عبد الرحمن . ثم رواه الخلال من حديث معاذ عن إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أبو أحمد بن عدي الحافظ عن عبد الله البغوي ثنا أبو الربيع الزهراني ثنا حماد بن زيد ثنا قتيبة بن الوليد ثنا معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره قال البيهقي وتابعه إسماعيل بن عياش عن معاذ .

ورواه الوليد بن مسلم عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن الثقة من أشياخهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي من أوجه أخر ضعيفة ، قاله البيهقي واعتنى ابن عبد البر بهذا الحديث وحاول تصحيحه واحتج به في أن كل من حمل العلم فهو عدل والله أعلم . ومعاذ بن رفاعة مختلف فيه قال أحمد ومحمد بن عوف وأبو داود لا بأس به وقال ابن المديني ونعيم ثقة وقال النسوي لين الحديث وضعفه ابن معين . [ ص: 53 ] وقال الجوزجاني : ليس بحجة .

وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابع عليه .

وقال ابن حبان منكر الحديث .

ونقل المروزي ويوسف بن موسى عن أحمد أنه قيل له : رجل أراد أن يصوم يوما تطوعا فأفطر لطلب العلم ؟ فقال إذا احتاج إلى طلب العلم فهو أحب إلي . فقيل له لأن طلب العلم أفضل ؟ فسكت .

وقال المروزي سمعت أبا عبد الله يصف كيف يؤخذ العلم قال : ننظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن فعن أصحابه ، فإن لم يكن فعن التابعين وقال أبو داود سمعت أبا عبد الله يسأل إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين لا يوجد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم يلزم الرجل أن يأخذ به . قال لا ، ولكن لا يكاد يجيء شيء عن التابعين إلا ويوجد فيه شيء عن أصحاب رسول الله .

وقال الفضيل بن أحمد : سمعت أحمد بن حنبل وقد أقبل أصحاب الحديث بأيديهم المحابر ، فأومأ إليها ، وقال : هذه سرج الإسلام ، يعني المحابر .

وقال ابن الجوزي قال الشافعي : لولا المحابر ، لخطبت الزنادقة على المنابر .

وروى بإسناده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال : رآني الشافعي وأنا في مجلس وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه ، فقال : لما تخفيه وتستره ؟ فإن الحبر على الثوب من المروءة ; لأن صورته في الأبصار سواد وفي البصائر بياض .

قال ابن الجوزي : وينبغي تجويد الخط وتحقيقه دون المشق والتعليق ، ويكره تضييق السطور ، وتدقيق القلم فإن النظر إلى الخط الدقيق يؤذي قال حنبل بن إسحاق رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطا دقيقا فقال : لا تفعل أحوج ما تكون إليه يخونك قال ابن الجوزي وقد كان بعضهم يضيق السطور لعدم الكاغد . وقد رأيت في وجهة من خط أبي عبد الله الصوري أحدا وثمانين سطرا .

وقال البغوي عن أحمد أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر وقال صالح رأى رجل مع أبي محبرة فقال له : يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا [ ص: 54 ] المبلغ وأنت إمام المسلمين ، فقال معي المحبرة إلى المقبرة .

وقال أحمد في موضع آخر : إظهار المحبرة من الرياء .

وذكر له الصدق والإخلاص فقال بهذا ارتفع القوم .

وروى ابن الجوزي بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي قال كان الرجل إذا لقي من هو فوقه في العلم كان يوم غنيمة . وإذا لقي من هو مثله دارسه وتعلم منه ، وإذا لقي من دونه تواضع له وعلمه .

وقال ابن عبد البر في بهجة المجالس وقال الأحنف : مذاكرة الرجال تلقيح لعقولها . ويأتي بنحو كراسة ما يتعلق بهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية