الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وتكره مصافحة الكافر وذكر أبو زكريا النووي معانقة القادم من السفر مستحبة وأن الانحناء مكروه وأن تقبيل يد الرجل الصالح مستحب .

وقال الشيخ وجيه الدين أبو المعالي في شرح الهداية تستحب زيارة القادم ومعانقته والسلام عليه قال وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنة مستحبة قال ويكره أن يطمع في قيام الناس له لقوله صلى الله عليه وسلم { من أحب أن يتمثل الناس له فليتبوأ مقعده من النار } وفي بعض ألفاظه " صفوفا " كذا قال وسبق في القيام ما ظاهره أو صريحه التحريم لهذا الخبر قال أبو المعالي وهذا محمول على ما يفعله الملوك من استدامة قيام الناس لهم ; لأنه يراوح بين رجليه كما تقف الدابة على ثلاث وتريح واحدة قال : فأما تقبيل يد العالم والكريم لرفده والسيد لسلطانه فجائز ، فأما إن قبل يده لغناه فقد روي من تواضع لغني لغناه فقد ذهب ثلثا دينه وقال التحية بانحناء الظهر جائز وقيل هو سجود الملائكة لآدم ، وقيل السجود حقيقة . ولما قدم ابن عمر الشام حياه أهل الذمة كذلك فلم ينههم وقال هذا تعظيم للمسلمين انتهى كلامه وفي بعضه نظر .

وأما السجود إكراما وإعظاما فلا يجوز كما دلت عليه الأخبار المشهورة .

وأما تقبيل الأرض فقال صاحب النظم : يكره كراهة شديدة ; لأنه يشبه السجود لكنه ليس بسجود لأن السجود الشرعي وضع الجبهة بالأرض على طهارة لله تعالى وحده إلى جهة مخصوصة ، وهذا إنما يصيب [ ص: 261 ] الأرض منه فمه وذلك لا يجزئ في السجود انتهى كلامه وهذا لا يفعل غالبا إلا للدنيا ، وقد ذكر صاحب النظم أنه يكره الانحناء مسلما وذكر أبو بكر بن الأنباري الحنبلي المشهور في قوله تعالى : { وخروا له سجدا } .

أنهم سجدوا ليوسف إكراما وتحية ، وأنه { كان يحيي بعضهم بعضا بذلك وبالانحناء فحظره رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الخبر الآتي أينحني له قال : لا } ذكره ابن الجوزي ولم يخالفه فدل على الموافقة فهذه ثلاث أقوال .

وجزم في كتاب الهدي بتحريم السجود والانحناء والقيام على الرأس وهو جالس ، وفي مسلم عن جابر قال : { اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا . فلما سلم قال : إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلوا قياما فصلوا قياما وإن صلوا قعودا فصلوا قعودا } ; فهذا نهي ، وظاهره التحريم لا سيما مذهب الإمام أحمد أنه لا يجوز أن يصلي قائما خلف قاعد ، واحتجوا بهذا النهي .

وقال الحافظ تقي الدين بن الأخضر فيمن روى عن أحمد محمد بن أحمد بن المثنى أبو جعفر البزار قال : أتيت ابن حنبل فجلست على بابه أنتظر خروجه فلما خرج قمت إليه فقال لي أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار } فقلت : إنما قمت إليك ، فاستحسن ذلك انتهى كلامه ، ومدلول هذا واضح فإن النهي دل على القيام له ، ومن قام إليه لم يتناوله النهي مع أن النهي لمن أحب ذلك وسبق الكلام في القيام ، وقد تقدم بعد فصول السلام ( فصل في ذكر القيام ) .

ويكره تقبيل الفم ; لأنه قل أن يقع كرامة ، ونزع يده من يد من صافحه [ ص: 262 ] قبل نزعه هو ، إلا مع حياء أو مضرة التأخير ، ذكره في الفصول والرعاية وقال الشيخ عبد القادر ولا ينزع يده حتى ينزع الآخر يده إذا كان هو المبتدئ قال الشيخ تقي الدين الضابط أن من غلب على ظنه أن الآخر ينزع أمسك ، وإلا فلو استحب الإمساك لكل منهما أفضى إلى دوام المعاقدة ، لكن تقييد عبد القادر حسن أن النازع هو المبتدئ انتهى كلامه .

وقال أبو داود حدثنا أحمد بن منيع ثنا أبو قطن أنبأنا مبارك عن ثابت عن أنس قال : { ما رأيت رجلا التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو ينحي رأسه وما رأيت رجلا أخذ بيده فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده . } مبارك هو ابن فضالة ثقة مدلس .

وقال أيضا باب ( في المعانقة ) ثم روى من رواية أيوب بن بشر بن كعب عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه قال ما لقيته قط إلا صافحني ، وبعث إلي يوما فلم أكن في أهلي فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود هذا الرجل مجهول وأيوب روى عنه جماعة .

وقال ابن خراش مجهول . ورواه أحمد .

وروى الترمذي وحسنه عن أنس قال { قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقاه أخوه أو صديقه أينحني له قال : لا قال أفيلتزمه ويقبله قال : لا قال فيأخذ بيده ويصافحه قال نعم } ورواه أحمد وابن ماجه . وعن عبد الله بن سلمة المرادي وحديثه حسن عن صفوان بن عسال قال { قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي قال : فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فذكر الحديث إلى قوله : فقبلوا يده ورجله وقالا : نشهد إنك نبي } رواه أحمد والنسائي والترمذي . وغيرهم بأسانيد صحيحة وصححه الترمذي وقال أبو داود حدثنا محمد بن عيسى ثنا مطر بن عبد الرحمن الأعنق حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع كان في وفد عبد القيس [ ص: 263 ] قال { لما جئنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجليه قال : وانتظرنا المنذر الأشج حتى أتى من غيبته فلبس ثوبه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فيك خلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة } الحديث أم أبان تفرد عنها مطر . وروي أيضا ثنا عمرو بن عون أنبأنا خالد عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال : { بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال : اصبرني . فقال : اصطبر قال : إن عليك قميصا وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه قال : إنما أردت هذا يا رسول الله } . إسناده ثقات ، ومات أسيد ولعبد الرحمن نحو ثلاث سنين ترجم عليه أبو داود

باب ( في قبلة الجسد ) أي أقدني من نفسك قال استقد يقال صبر فلان من خصمه واصطبر أي اقتص منه ، وأصبره الحاكم أي قصه من خصمه .

وعن عائشة قالت : { قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فآتاه فقرع الباب فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله } رواه الترمذي وحسنه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال { قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي فقال الأقرع بن حابس إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم } متفق عليه .

وعن البراء مرفوعا { ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال غريب من حديث أبي إسحاق عن البراء وهو من رواية الأجلح عن أبي إسحاق وهو مختلف فيه . [ ص: 264 ] وعن البراء مرفوعا { إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله عز وجل واستغفرا غفر لهما } إسناده حسن رواه أبو داود ، وفي الحديث الصحيح عن حميد عن أنس قال { لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة } رواه أبو داود وسأله قتادة أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه البخاري .

وفي الموطأ عن عطاء الخراساني تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا تذهب الشحناء وقال ابن عبد البر قال أبو مجلز : المصافحة تجلب المودة ، وقد قال أبو الحسن الرازي فيما ألفه في ابتداء الشافعي ولقيه مالك أخبرني أبو رافع أسامة بن علي بن سعد بمصر ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سألت الشافعي عن الاعتناق في الحمام للغائب ، فقال : لا يجوز لا داخل ولا خارج قال وكان مالك يكره المصافحة فكيف الاعتناق وقال ابن حزم اتفقوا أن مصافحة الرجل حلال .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال : أثم لكع ؟ أثم لكع يعني حسنا فظننا أنه إنما تحبسه أمة لأن تغسله وتلبسه سخابا فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه } قوله في طائفة : أي قطعة منه وقينقاع مثلث النون ، ولكع هنا الصغير ، والخباء بكسر الخاء والمد بيتها .

والسخاب بكسر السين جمعه سخب القلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري . وقيل هو خيط سمي سخابا لصوت خرزه عند حركته من السخب بفتح السين والخاء ويقال الصخب وهو اختلاط الأصوات . وفيه جواز لباس الصبيان القلائد [ ص: 265 ] والسخب من الزينة ، وتنظيفهم ولا سيما عند لقاء أهل الفضل ، وملاطفة الصبي والتواضع .

وكره مالك معانقة القادم من سفر وقال بدعة ، واعتذر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بجعفر حين قدم بأنه خاص له ، فقال له سفيان ما تخصه بغير دليل فسكت مالك قال القاضي عياض وسكوته دليل لتسليم قول سفيان وموافقته وهو الصواب حتى يقوم دليل على التخصيص .

التالي السابق


الخدمات العلمية