الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 311 ] فصل ( في ترتيل القرآن وتدبره والتخشع والتغني به ) .

ويستحب ترتيل القراءة وإعرابها وتمكن حروف المد واللين من غير تكلف ، قال أحمد : تعجبني القراءة السهلة ، وكره السرعة في القراءة قال حرب : سألت أحمد عن السرعة في القراءة فكرهه إلا أن يكون لسان الرجل كذلك أو لا يقدر أن يترسل ، قيل : فيه إثم ؟ قال أما الإثم فلا أجترئ عليه قال القاضي : يعني إذا لم تبن الحروف مع أنه قال : ظاهر هذا كراهة السرعة والعجلة .

قال في رواية جعفر بن أحمد وقد سئل إذا قام الرجل من الليل أيما أحب إليك : الترسل أو السرعة ؟ فقال : أليس قد جاء : بكل حرف كذا وكذا حسنة ؟ قولوا له في السرعة قال : إذا صور الحرف بلسانه ولم يسقط من الهجاء قال القاضي : وظاهر هذا أنه اختار السرعة .

وقال في الرعاية الكبرى : كره أحمد سرعتها إذا لم يبين الحروف انتهى كلامه .

قال القاضي : أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة ، ومعناه أنه إذا بين ما يقرأ به فقد أتى بالترسل وإن كان مستعجلا في قراءته ، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها ما لم يخرجه ذلك إلى التمديد والتمطيط ، فإذا انتهى إلى التمطيط كان ممنوعا ، قال وقد أومأ أحمد إلى معنى هذا فقال في رواية أبي الحارث : يعجبني من قراءة القرآن السهلة ولا تعجبني هذه الألحان ، قال الشيخ تقي الدين : أظنه حكاية عن أبي موسى ، والتفهم فيه والاعتبار فيه مع قلة القراءة أفضل من إدراجه بغير تفهم . انتهى كلامه .

قال أحمد : يحسن القارئ صوته بالقرآن ويقرؤه بحزن وتدبر وهو معنى قوله : عليه السلام { : ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن } نص عليه .

قوله : أذن بكسر الذال ومعناه الاستماع . وقوله : " كأذنه " هو بفتح الهمزة والذال وهو مصدر أذن يأذن أذنا كفرح يفرح فرحا .

وفي [ ص: 312 ] رواية في الصحيح : " كإذنه " بكسر الهمزة وإسكان الذال . قال القاضي عياض : هو على هذه الرواية بمعنى الحث على ذلك والأمر به . انتهى كلامه .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا { : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به } ومعناه أذن استمع .

وقال : عليه السلام { ليس منا من لم يتغن بالقرآن . } رواه البخاري ، كذا عزاه في الشرح وذكر النووي أن أبا داود رواه بإسناد جيد من حديث أبي لبابة عن عبد الأعلى بن حماد عن عبد الجبار بن الورد عن أبي مليكة قال : قال عبد الله بن أبي يزيد : مر بنا أبو لبابة فذكره في قصة . قال البخاري عن عبد الجبار : يخالف في بعض حديثه . ووثقه غيره ، وهذا حديث حسن ولم أجده في مسند الإمام أحمد ، وأظنه رواه في غير المسند . قال أبو عبيد معنى قوله : { من لم يتغن بالقرآن } ، أي : يستغني به ولو كان من الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن ، وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال أحمد بن محمد البزي : هذا قول من أدركنا من أهل العلم .

وقال الوليد بن مسلم : يتغنى بالقرآن يجهر به ، وهذا قول الشافعي ورواه إسحاق بن إبراهيم عن أحمد ، وقال الليث بن سعد تفسيره التحزن .

وقال عمرو بن الحارث : تفسيره الاستغناء ، أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم { : فتغنوا ولو بحزم الحطب }

وذكر النووي أن معناه عند الشافعي وأكثر العلماء يحسن صوته به .

ولأبي داود من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { زينوا القرآن بأصواتكم } .

قال الهروي : معناه الهجوا بقراءة القرآن وتزينوا به ، وليس معناه على تطريب الصوت والتحزين إذ ليس ذلك في وسع كل أحد قال : وهكذا قوله : { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } .

وقال فيه البغوي [ ص: 313 ] قريبا منه ، قال : إنه من المقلوب كقولهم خرق الثوب المسمار .

وقال ` تعالى : { ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة } أي : تنهض ورواه البغوي من طريق آخر { : زينوا أصواتكم بالقرآن } .

وذكر جماعة من أصحابنا وغيرهم منهم الآجري والحافظ أبو موسى لقراءة القرآن آدابا ، منها إدمان تلاوته ، ومنها البكاء فإن لم يكن فالتباكي ، ومنها حمد الله عند قطع القراءة على توفيقه ونعمته وسؤال الثبات والإخلاص ، ومنها السؤال ابتداء ، ومنها أن يسأل عند آية الرحمة ويتعوذ عند آية العذاب ومنها أن يجهر بالقراءة ليلا لا نهارا ، ومنها أن يوالي قراءته ، ولا يقطعها حديث الناس ، وفيها نظر إذا عرضت حاجة ، ومنها أن يقرأ بالقراءة المستفيضة لا الشاذة الغريبة ، ومنها أن تكون قراءته عن العدول الصالحين العارفين بمعانيها ، ومنها أن يقرأ ما أمكنه في الصلاة ; لأنه أفضل أحوال العبد ; ولأن في الحديث : أن القراءة فيها تضاعف على القراءة خارجا عنها .

وقال محمد بن جحادة : ( كانوا يستحبون أن يختموا في ركعتي المغرب أو في الركعتين قبل الفجر ) .

ومنها أن يتحرى قراءته متطهرا ، ومنها إن كان قاعدا استقبل القبلة ، ومنها كثرة تلاوته في رمضان ، ومنها أن يتحرى أن يعرضه كل عام على من هو أقرأ منه ، ومنها بالإعراب وقد تقدم .

وقال بعض أصحابنا : إن المعنى الاجتهاد على حفظ إعرابه لا أنه لا يجوز الإخلال به عمدا فإن ذلك لا يجوز ويؤدب فاعله لتغييره القرآن ، ومنها أن يفخمه ; لأنه روي عنه عليه السلام { : نزل القرآن بالتفخيم } قال الحافظ أبو موسى : معناه أن يقرأه على قراءة الرجال ولا يخضع الصوت به ككلام النساء وليس معناه كراهة الإمالة ويحتمل إرادتها ، ثم رخص فيها ، ومنها أن يفصل بين سورة مما قبلها إما بالوقف أو التسمية ولا يقرأ من أخرى قبل فراغ الأولى ، ومنها الوقف على رءوس الآي وإن لم يتم الكلام لوقفه في قراءة الفاتحة على كل آية ، ولم يتم الكلام قال أبو موسى [ ص: 314 ] ولأن الوقف على آخر السورة لا شك في استحبابه ، وقد يتعلق بعضها ببعض كسورة الفيل مع قريش : ومنها أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهله لحفظ كتابه ، ويستصغر عرض الدنيا أجمع في جنب ما خوله الله تعالى ، ويجتهد في شكره .

ومنها ترك المباهاة وأن لا يطلب به الدنيا ، بل ما عند الله ، ومنها أن لا يقرأ في المواضع القذرة ، وينبغي أن يكون ذا سكينة ووقار وقناعة ورضا بما قسم الله تعالى مجانبا للدنايا محاسبا لنفسه ، يعرف القرآن في سمته وخلقه ; لأنه صاحب الملك والمطلع على ما قد وعد فيه وهدد فإذا بدرت منه سيئة بادر محوها بالحسنة .

وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عن ابن مسعود قال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس مفطرون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخلطون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي أن يكون باكيا محزونا حكيما عليما سكينا ، ولا يكون جافيا ، ولا غافلا ولا صاخبا ولا صياحا ولا حديدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية