الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 444 ] فصل ( في الاستعانة بأهل الذمة ) .

قال بعض أصحابنا ويكره أن يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك ونقله إلا ضرورة قال في الرعاية الكبرى ولا يكون بوابا ولا جلادا ونحوهما . وعن أبي موسى الأشعري أنه أتخذ كاتبا نصرانيا فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وعن عمر أيضا أنه قال : لا ترفعوهم إذ وضعهم الله ، ولا تعزوهم إذ أذلهم الله ، ولأن في الاستعانة بهم في ذلك من المفسدة ما لا يخفى وهي ما يلزم عادة أو ما يفضي إليه من تصديرهم في المجالس ، والقيام لهم وجلوسهم فوق المسلمين وابتدائهم بالسلام أو ما في معناه ورده عليهم على غير الوجه الشرعي وأكلهم من أموال المسلمين ما أمكنهم لخيانتهم واعتقادهم حلها وغير ذلك ، ولأنه إذا منع من الاستعانة بهم في الجهاد مع حسن رأيهم في المسلمين والأمن منهم وقوة المسلمين على المجموع لا سيما مع الحاجة إليهم على قول فهذا في معناه وأولى للزومه وإفضائه إلى ما تقدم من المحرمات بخلاف هذا ، وبهذا يظهر التحريم هنا وإن لم تحرم الاستعانة بهم على القتال ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الكفار بطانة لهم فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } .

وبطانة الرجل تشبيهه ببطانة الثوب الذي يلي بطنه ; لأنهم يستنبطون أمره ويطلعون عليه بخلاف غيرهم ، وقوله { من دونكم } أي من غير أهل ملتكم [ ص: 445 ] ثم قال تعالى : { لا يألونكم خبالا } أي لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم والخبال الشر والفساد { ودوا ما عنتم } أي يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك ، والعنت المشقة يقال فلان يعنت فلانا أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه .

{ قد بدت البغضاء من أفواههم } قيل بالشتم والوقيعة في المسلمين ومخالفة دينكم ، وقيل باطلاع المشركين على أسرار المؤمنين { وما تخفي صدورهم أكبر } أي أعظم { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } قال القاضي أبو يعلى من أئمة أصحابنا وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز [ الاستعانة بأهل الذمة ] في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب ، وقد جعل الشيخ موفق الدين رحمه الله هذه المسألة أصلا في اشتراط الإسلام في عامل الزكاة فدل على أنها محل وفاق .

وقال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب وقد سأله يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج ؟ فقال لا يستعان بهم في شيء .

فانظر إلى هذا العموم من الإمام أحمد نظرا منه إلى رديء المفاسد الحاصلة بذلك وإعدامها وهي وإن لم تكن لازمة من ولايتهم ولا ريب في لزومها فلا ريب في إفضائها إلى ذلك ، ومن مذهبه اعتبار [ ص: 446 ] الوسائل والذرائع ، وتحصيلا للمأمور به شرعا من إذلالهم وإهانتهم والتضييق عليهم وإذا أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بالتضييق عليهم في الطريق المشتركة فما نحن فيه أولى هذا مما لا إشكال فيه ، ولأن هذه ولايات بلا شك ، ولهذا لا يصح تفويضها مع الفسق والخيانة ، والكافر ليس من أهلها بدليل سائر الولايات وهذا في غاية الوضوح ; ولأنها إذا لم يصح تفويضها إلى فاسق فإلى كافر أولى بلا نزاع .

ولهذا قد نقول يصح تفويضها إلى فاسق إما مطلقا أو مع ضم أمين إليه يشارفه كما نقول في الوصية ; ولأنه إذا لم تصح وصية المسلم إلى كافر في النظر في أمر أطفاله أو تفريق ثلثه مع أن الوصي المسلم المكلف العدل يحتاط لنفسه وماله وهي مصلحة خاصة يقل حصول الضرر فيها فمسألتنا أولى هذا مما لا يحتاج فيه إلى تأويل ونظر والله أعلم وقال الله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } .

وهذا من أعظم السبيل استدل الشيخ وجيه الدين وغيره من الأصحاب بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يكون عاملا في الزكاة وقد قال أصحابنا في كاتب الحاكم لا يجوز أن يكون كافرا واستدلوا بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } .

وبقضية عمر على أبي موسى وقال الشيخ تقي الدين في أول الصراط المستقيم في أثناء كلام له: ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على ترك الاستعانة بهم في الولايات فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال ما لك قاتلك الله أما سمعت الله يقول [ ص: 447 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفيا ؟ قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله انتهى كلامه ورواه البيهقي وعنده " فانتهرني وضرب على فخذي " وعنده أيضا " فقال أبو موسى والله ما توليته إنما كان يكتب . فقال عمر له أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ لا تدنهم إذا أقصاهم الله ولا تأمنهم إذا أخانهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله .

وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم يستحلون الرشاء في دينهم ولا تحل الرشاء .

وقال سعيد بن منصور في سننه ثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال : قال عمر لا ترفعوهم إذ وضعهم الله ولا تعزوهم إذ أذلهم الله يعني أهل الكتاب . كلهم أئمة لكن إبراهيم لم يلق عمر ، وقطع الشيخ تقي الدين في موضع آخر بأنه يجب على ولي الأمر منعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام وقال : أيضا الولاية إعزاز وأمانة وهم يستحقون للذل والخيانة ، والله يغني عنهم المسلمين ، فمن أعظم المصائب على الإسلام وأهله أن يجعلوا في دواوين المسلمين يهوديا أو سامريا أو نصرانيا .

وقال أيضا : لا يجوز استعمالهم على المسلمين فإنه يوجب من إعلائهم على المسلمين خلاف ما أمر الله ورسوله ، { والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يبدءوا بالسلام } { وأمر إذا لقيهم المسلمون أن يضطروهم إلى أضيق الطرق } .

{ وقال الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، } وقد منعوا من تعلية بنائهم على المسلمين فكيف إذا كانوا ولاة على المسلمين فيما يقبض منهم ويصرف إليهم وفيما يؤمرون به من الأمور المالية ويقبل خبرهم في ذلك فيكونون هم الآمرين الشاهدين عليهم ؟

هذا من أعظم ما يكون من مخالفة أمر الله ورسوله ، وقد قدم أبو موسى على عمر رضي الله عنهما بحساب العراق فقال ادع [ ص: 448 ] يقرؤه فقال إنه لا يدخل المسجد فقال لم ؟ قال لأنه نصراني ، فضربه عمر بالدرة فلو أصابته لأوجعته وقال لا تعزوهم إذ أذلهم الله ولا تصدقوهم إذ كذبهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله .

وكتب إليه خالد بن الوليد أن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه لا تستعمله ، فأعاد عليه السؤال وإنا محتاجون إليه فكتب إليه مات النصراني والسلام يعني قدر موته ، فمن ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه ، إلى أن قال وقد يشيرون عليهم بالرأي التي يظنون أنها مصلحة ويكون فيها من فساد دينهم ودنياهم ما لا يعلمه إلا الله وهو يتدين بخذلان الجند وغشهم يرى إنهم ظالمين ، وأن الأرض مستحقة للنصارى ويتمنى أن يتملكها النصارى .

وقال أيضا كان صلاح الدين وأهل بيته يذلون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا . ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد ، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل حتى قام بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله . فإن الله تعالى يقول : { ولينصرن الله من ينصره } .

إلى أن قال وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم ، بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين ، والمسلمون ولله الحمد مستغنون عنهم في دينهم ودنياهم ، ففي ذمة المسلمين من علماء النصارى ورهبانهم من يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون مع أن افتداء الأسرى من أعظم الواجبات .

وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين ، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم أرغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف كل [ ص: 449 ] طائفة تضاد الأخرى ، ولا يشير على ولي الأمر بما فيه إظهار شعارهم في دار الإسلام أو تقوية أيديهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق أو له غرض فاسد أو في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين .

وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله وكبته إلى أن قال : وثبت في الصحيح عن { النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له إني لا أستعين بمشرك } وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مؤمنين فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم إلى أن قال { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } .

وذكر سبب نزولها ثم قال وقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وربما يطلعون على ذلك من أسرارهم وعوراتهم وغير ذلك وقد قيل :

كل العداوات قد ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين

انتهى كلامه .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا } رواه الإمام أحمد والنسائي وعبد بن حميد وغيرهم . ومعنى قوله { لا تستضيئوا بنار المشركين } أي [ ص: 450 ] لا تستشيروهم ولا تأخذوا آراءهم .

جعل الضوء مثلا الرأي عند الحيرة هذا معنى قول الحسن رواه عبد بن حميد ، واحتج الحسن بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } وكذا فسره غيره ، وفسر الحسن { ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا } أي لا تنقشوا فيها محمدا وفسره غيره محمد رسول الله لأنه كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث عمر { لا تنقشوا في خواتيمكم العربية } وعن ابن عمر أنه كان يكره أن ينقش في الخاتم القرآن .

وقال ابن عبد البر قال ابن القاسم سئل مالك عن النصراني يستكتب ؟ قال لا أرى ذلك ، وذلك أن الكاتب يستشار ، فيستشار النصراني في أمر المسلمين ؟ ما يعجبني أن يستكتب . وذكر ابن عبد البر أنه استأذن على المأمون بعض شيوخ الفقهاء فأذن له ، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلا يهوديا كاتبا كانت له عنده منزلة وقربة لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته فلما رآه الفقيه قال ، وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس ، فقال ، أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس قال نعم ، فأنشده :

إن الذي شرفت من أجله     يزعم هذا أنه كاذب



وأشار إلى اليهودي . فخجل المأمون ووجم ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوبا على وجهه فأنفذ عهدا بإطراحه وإبعاده وأن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله قال ابن عبد البر : كيف يؤتمن على سر ، أو يوثق به في أمر من وقع في القرآن ، وكذب النبي ؟ [ ص: 451 ]

وقد أمر الناصر لدين الله أن لا يستخدم في الديوان بأحد من أهل الذمة فكتب إليه عن أبي منصور : ابن رطينا النصراني إنا لا نجد كاتبا يقوم مقامه ، فقال : نقدر أن رطينا مات هل كان يتعطل الديوان ؟ فحينئذ أسلم وحسن إسلامه ، فأما [ أهل الأهواء فهل يستعان بهم ؟ ] الذي يؤخذ من كلام الأصحاب جوازه ، والمنقول عن الإمام المنع ، وإن جازت الاستعانة بأهل الذمة ، وقد تقدم في فصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية