الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
فصل ( في إصابة العين وما ينفع فيها ) .

وإن أصاب زيد عمرا بالعين غسل زيد وجهه ، ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره وصبه على عمرو . قدمه السامري وابن حمدان وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عامر بن سهل بن حنيف وهو عامر بن ربيعة بذلك ففعل في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس } ورواه أحمد بإسناد حسن وفي آخره ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم ليلق القدح وراءه ، ففعل به ذلك ، فراح سهل مع الناس ليس به بأس ، وداخلة إزاره قيل : فرجة وقيل : طرف إزاره الداخل الذي يلي جسده وقيل : بل يغتسل العائن غسلا كاملا يعم به جميع بدنه ثم يصب ذلك على المعين ، وقد روى أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن ابن عباس مرفوعا { العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم [ ص: 71 ] فاغسلوا } .

وروى أبو داود وإسناده ثقات عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين ،

وهذا من الطب الشرعي المتلقى بالقبول عند أهل الإيمان ، وقد تكلم بعضهم في حكمة ذلك ، ومعلوم أن ثم خواص استأثر الله بعلمها فلا يبعد مثل هذا ولا يعارضه شيء ، ولا ينفع مثل هذا غالبا إلا من أخذه بقبول واعتقاد حسن لا مع شك وتجربة .

وقد روى مالك وأحمد في الخبر { أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ على عامر بن ربيعة وقال علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت ؟ } فمن خاف أن يضر غيره فليقل ذلك وكان عروة إذا رأى شيئا يعجبه قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

وروى النسائي في اليوم والليلة وابن ماجه والحاكم في المستدرك عن عامر بن ربيعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه شيئا يعجبه فليدع بالبركة ، فإن العين حق } .

وعن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما أنعم الله على عبد من نعمة في أهل ولا مال أو ولد فيقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت } رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من رواية عبد الملك بن زرارة قال أبو الفتح الأزدي لا يصح حديثه . وقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر } لم يقل البخاري " في نفسه " . وهذا الحديث صادق على المقصود هنا ، وإن لم يذكره .

وكذا قوله تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } ، وإن كان المراد منعهم من الكفار ونصرهم عليهم فهو صادق على المقصود هنا والله أعلم .

[ ص: 72 ] ويعالج المعين مع ذلك بالرقى من الكتاب والسنة والتعوذ والدعاء وليحترز الحسن من العين والحسد بتوحيش حسنه فقد ذكر الخطابي في غريب الحديث عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا تأخذه العين فقال دسموا نونته قال ثعلب أراد بالنونة النقرة التي في ذقنه ، والتدسيم التسويد ، أراد سودوا ذلك الموضع من ذقنه ليرد العين قال الخطابي : ومن هذا حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { خطب ذات يوم وعلى رأسه عمامة دسماء أي سوداء } ومن هذا أخذ الشاعر قوله :

ما كان أحوج ذا الكمال إلى عيب يوقيه من العين

وقد ذكر البغوي في شرح السنة هذا الأثر عن عثمان وفسره كذلك والله أعلم . وفي وجوب الوضوء خلاف بين أهل العلم وظاهر ما تقدم من النقل والدليل وجوبه وهو أظهر .

وللإمام حبس العائن ، ذكره في الترغيب ، وفي الرعاية من عرف بأذى الناس حتى بعينه ولم يكف حبس حتى يموت ، وظاهره يجب أو يستحب لما فيه من المصلحة وكف الأذى ونفقته من بيت المال لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحبسه .

وفي الأحكام السلطانية : للوالي فعله ليدفع ضرره لا للقاضي قال القاضي عياض : ينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ، ويأمره بلزوم بيته وبرزقه إن كان فقيرا فضرره أشد من ضرر أكل الثوم والبصل الذي منعه النبي دخول المسجد ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعدم الاختلاط بالناس ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها بحيث لا يتأذى بها أحد قال أبو زكريا النووي : هذا صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه .

وهل تنبعث جواهر لطيفة لا ترى من العين فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه أم لا بد تنبعث قوة سمية تتصل بالمعين فيتضرر كما قد اشتهر عن بعض أنواع الحيات إذا وقع بصره على إنسان حتى قال بعض أصحابنا [ ص: 73 ] وغيرهم لا يتوقف التأثير على الرؤية فقد يوصف للأعمى الشيء فتؤثر نفسه فيه ؟ وقد يعين الإنسان بإرادته وقد يعين بطبعه وهو أردأ ، وهل يحصل التلف والفساد بها أم عندها ؟ مبني على إثبات الأسباب ، وفي ذلك خلاف بين العلماء والمسألة مشهورة .

وفي فنون ابن عقيل : القول بالعدوى إضافة الداء إلى التولد وأن الفاسد ولد فاسدا وفي الهواء في الذات السليمة . والعين إضافة الفعل إلى صاحب العين إذ لا يمكنه ذلك ولا في الممكن أن يتولد من عينه ونظره فساد صالح ولا موت حي ولا ينسب ذلك إلا إلى الله . والحقيقة أن الله هو الفاعل لكل حادث من فساد الأجساد ومن صلاحها وأنه يحدث ذلك عند وجود شيء أو مقارنته ; لأن ذلك الشيء لا يولد ولا يحدث فسادا ولا صلاحا والله أعلم .

وقد يؤخذ من هذا أنه لا يلزمه ضمان وفيه نظر ، ويتوجه إن ثبت أنه يقتل به غالبا وقصد الجناية فعمد . وإن قصدها ولم يقتل غالبا فشبه عمد وإلا فخطأ يضمنه ، وقد أنكر العين طوائف من المبتدعة وهو باطل قال الحسن البصري رحمه الله : دواء إصابة العين أن يقرأ الآية يعني : قوله : [ ص: 74 ] { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين } ولما كان الحاسد أعم من العائن كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن ونفسهما خبيثة تتكيف بكيفية خبيثة نحو المحسود والمعين ، فإن صادفته متحصنا بالطب الشرعي لم تؤثر فيه وربما رد ذلك على صاحبه فأثر فيه كالرمي الحسي ، وإن لم تصادفه متحصنا أثرت فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية