الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
ومعالجة السم باستفراغ أو دواء يعارض فعله ويبطله بكيفيته أو بخاصيته [ ص: 92 ] وإن عدم الدواء فالاستفراغ الكلي ، وأنفعه الحجامة لا سيما مع حر المكان والزمان ، فإن القوة السمية تسري في الدم فتبعث في العروق والمجاري حتى تصل إلى القلب فيكون الهلاك فإذا خرج الدم خرج معه الكيفية السمية ، فإن كان استفراغا تاما ذهب السم أو تقوى عليه الطبيعة .

وإنما احتجم عليه السلام في الكاهل وهو الحارك وهو ما بين الكتفين مقدم أعلى الظهر ; لأنه أقرب موضع يمكن حجمه إلى القلب وللترمذي وإسناده ثقات وقال حسن غريب عن أنس قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين وهما عرقان في جانبي العنق والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين } ولأبي داود بإسناد حسن من حديث أبي هريرة { أن من احتجم في هذه الأيام كان شفاء من كل داء } . والمراد داء سببه غلبة الدم وكذا معنى ما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري مرفوعا { من أهراق من هذه الدماء فلا يضره أن لا يتداوى بشيء } . وعن ابن عباس مرفوعا { نعم الدواء الحجامة تذهب الدم وتجفف الصلب وتجلو عن البصر } وقال { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عرج به ما مر على ملإ من الملائكة إلا قالوا عليك بالحجامة } وقال { إن خير ما تحتجمون فيه سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين } إسناده ضعيف رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب .

وفي موطإ مالك بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن كان دواء يبلغ الداء ، فإن الحجامة تبلغه } وعن أبي هريرة مرفوعا { إن كان في شيء مما يتداوون به خير ففي الحجامة } رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود وعنده " مما تداويتم " ولأحمد من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحجم { هو خير ما تداوى به الناس } ولابن ماجه من حديث أنس والترمذي وقال حسن غريب من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم { ليلة أسري به ما مر على ملإ من الملائكة إلا أمروه أن مر أمتك بالحجامة } .

قال بعض أصحابنا فلما احتجم من السم بقي أثره مع ضعفه لإرادة الله تكميل مراتب الفضل كلها له صلى الله عليه وسلم فظهر تأثير ذلك الأثر لما أراد الله إكرامه [ ص: 93 ] بالشهادة وظهر سر قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } ، فجاء ( كذبتم ) بالماضي لوقوعه وجاء ( تقتلون ) بالمستقبل لتوقعه كذا قال .

وقال أبو البقاء وغيره : إنما قال : ( تقتلون ) لتوافق رءوس الآي وقال المهدي وغيره : ليدل على أن ذلك من شأنهم أبدا وقد قال تعالى : { والله يعصمك من الناس } .

والمراد من القتل فلا يرد كونه أوذي أو أن الأذى كان قبل نزول الآية . ذكر ابن الجوزي وغيره هذين الجوابين . وهذه الآية توافق قوله صلى الله عليه وسلم لليهودية { ما كان الله ليسلطك على ذلك أو علي } كذا قالت اليهودية واليهود : إن كنت نبيا لم يضرك وعلى هذا فيكون ما روي من وجود الألم وانقطاع الأبهر من السم مرسل أو منقطع أو يقال : إنه خلاف الأشهر فالقول بالأشهر المتفق على صحته أولى مع موافقته للكتاب العزيز .

وصاحب القول الآخر يقول : هذه مرتبة كمال قد صحت بها الرواية ولا مانع من القول بها ، والمراد بالعصمة من القتل بالآية والخبر على وجه القهر والغلبة والتسليط وهذا لم يقع ، وأن المراد من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام محفوظ آمن مما لم يحفظ منه غيره ولم يأمن ولهذا في الصحيحين من حديث جابر { أنه لما نام وجاء أعرابي فاخترط سيفه فاستيقظ عليه السلام والسيف في يد الأعرابي فقال تخافني ؟ فقال : لا قال : فمن يعصمك مني قال : الله } ولهذا مات بعض من أكل معه من الشاة ، وقصدت اليهودية [ ص: 94 ] أنه إن لم يكن نبيا أنه يموت ، وعاش هو صلى الله عليه وسلم سنين على حاله قبل الأكل يتصرف كما كان فلم تقتله اليهود بفعلها كما قتلت غيره ، وأحسن الله سبحانه صنيعه إليه على جاري عادته تعالى ، فأظهر أثرا بعد سنين إكراما له بالشهادة ولا تعارض يبن الأدلة في ذلك والتوفيق بينها أولى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية