الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 131 ] قال وهب بن منبه : العقل ، والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه قال ابن دريد :

وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا

قال عمر بن عبد العزيز : أفضل الجهاد جهاد الهوى وقال سفيان الثوري أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعا قال ومن المحقرات تنتج الموبقات ، ويقولون إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت :

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى     إلى بعض ما فيه عليك مقال



قال ابن عبد البر لو قال إلى كل ما فيه عليك مقال كان أبلغ وأحسن وما قال ابن عبد البر متوجه .

وقال بعض الحكماء . إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي ، والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه وقال بعضهم اعص النساء وهواك واصنع ما شئت قال ابن عبد البر لو قال اعص الهوى لاكتفى وصدق ابن عبد البر وكان أوجز قيل للمهلب بم ظفرت قال بطاعة الحزم وعصيان الهوى .

قالوا ما ذكر الله تعالى الهوى في شيء من القرآن إلا ذمه وقال بزرجمهر الهوى غالب ، والقلب معلق به ، وقد امتدح بترك الهوى جماعة من الحكماء .

وقال الزبير بن عبد المطلب :

وأجتنب الكبائر حيث كانت     وأترك ما هويت لما خشيت

قال ابن عبد البر حدثنا عبد الوارث ثنا قاسم نصر بن محمد الأسدي الكوفي ثنا إبراهيم بن عثمان المصيصي ثنا مخلد بن حسين ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال بينما عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يحرس ذات ليلة إذ سمع امرأة وهي تقول : [ ص: 132 ]

هل من سبيل إلى خمر فأشربها     أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

فلما أصبح قال علي بنصر فجيء به فإذا هو أجمل الناس فقال : إنها المدينة لا تساكني فيها فخرج إلى البصرة ، فنزل على ابن عم له هو أمير البصرة ، فبينما هو جالس مع ابن عمه وامرأته إذ كتبت في الأرض إني لأحبك حبا لو كان فوقك لأظلك ، ولو كان تحتك لأقلك ، فقرأه وكتب تحته وأنا كذلك . وكان الأمير لا يقرأ فعلم أنه جواب كلام فأكفأ عليه إناء وقام فبعث إلى من يقرؤه ، فبلغ ذلك نصرا فلم يجئ إليه ومرض حتى سل وصار شبه الفرخ وأخبر الأمير بذلك ، فقال لها اذهبي إليه وأسنديه إلى صدرك وأطعميه ، فلما أتت الباب قيل له هذه فلانة فكأنه انتعش فصعدت إليه وأسندته إلى صدرها وأطعمته فأفاق ، فخرج من البصرة واستحيا من ابن عمه فلم يلقه بعدها قال إبراهيم بن عثمان الأمير مجاشع بن مسعود وامرأته الخضراء .

وللشافعي أو لسهل الوراق :

إذا حار وهمك في معنيين     وأعياك حيث الهوى والصواب
فدع ما هويت فإن الهوى     يقود النفوس إلى ما يعاب

كان يقال إذا غلب عليك عقلك فهو لك ، وإن غلب هواك فهو لعدوك قال عمر لمعاوية رضي الله عنهما من أصبر الناس قال من كان رأيه رادا لهواه قال أعرابي أشد جولة الرأي عند الهوى ، وأشد فطام النفس عند الصبر .

قال نفطويه إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها ، وكذلك نفسك لا تريك عيوب نفسك في هواها . فهذه نبذة يسيرة تتعلق بالهوى . [ ص: 133 ]

وللحكماء كجالينوس وغيره في العشق كلام اختصرته . وسئل بعض الحكماء عنه فقال شغل قلب فارغ وقال بعضهم بطن فرق ، وظهر فكثف ، وامتنع وصفه على اللسان ، فهو بين السحر ، والجنون ، لطيف المسلك ، والكمون .

وجد في صحيفة لبعض أهل الهند : العشق ارتياح جعل في الروح ، وهو معنى تنتجه النجوم بمطارح شعاعها ، وتولده الطبائع بوصله أشكالها ، وتقبله النفوس بلطف خواطرها ، وهو يعد جلاء للقلوب ، وصيقلا للأذهان ، ما لم يفرط ، فإذا أفرط عاد سقما قاتلا ، ومرضا منهكا ، لا تنفذ فيه الآراء ، ولا تنجع فيه الحيل ، العلاج منه زيادة فيه .

حضر عند المأمون يوما يحيى بن أكثم القاضي وثمامة بن أشرس فقال المأمون ليحيى خبرني عن حد العشق ؟ فقال يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهتم بها تسمى عشقا . فقال ثمامة اسكت يا يحيى فإنما عليك أن تجيب في مسألة الفقه وهذه صناعتنا . فقال المأمون : أجب يا ثمامة . فقال يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس بوصل المشاكلة أثبتت لمح نور ساطع تستضيء به نواظر العقل فتهتز لإشراقه طبائع ويتصور من ذلك نور خاطر بالنفس متصل بجوهرها فيسمى عشقا قال عباس بن الأحنف فيما أنشده إسحاق الموصلي :

فلو كان لي قلبان عشت بواحد     وخليت قلبا في هواك يعذب
ولكنما أحيا بقلب مروع     فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرب
تعلمت ألوان الرضى خوف سخطها     وعلمها حبي لها كيف تغضب
ولي ألف وجه قد عرفت مكانه     ولكن بلا قلب إلى أين يذهب

وقال أيضا :

أرى الطريق قريبا حين أسلكه     إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف

وله :

يقرب الشوق دارا وهي نازحة     من عالج الشوق لم يستبعد الدارا

[ ص: 134 ]

وقال آخر :

فلو أن شرق الشمس بيني وبينها     وأهلي وراء الشمس حيث تغيب
لحاولت قطع الأرض بيني وبينها     وقال الهوى لي إنه لقريب

قال ابن عبد البر : وقال بعضهم لو لم يكن في العشق إلا أنه يشجع قلب الجبان ، ويسخي قلب البخيل ، ويصفي الغبي ، ويبعث حزم العاقل ، ويخضع له عز الملوك ، وتضرع له صولة الشجاع ، وينقاد له كل ممتنع ، لكفى به شرفا .

قال أعرابي من فزارة عشقت امرأة من طيئ فكانت تظهر لي مودة فوالله ما جرى بيني وبينها شيء من ريبة غير أني رأيت بياض كفها فوضعت كفي على كفها فقالت : مه لا تفسد ما صلح . فارفضضت عرقا من قولها فما عدت لذلك وقال بعضهم الرجل يكتم بغض المرأة أربعين يوما ولا يمكنه أن يكتم حبها يوما والمرأة تكتم حب الرجل أربعين يوما ولا يمكنها أن تكتم بغضه يوما واحدا .

قال علي بن الجهم :

يا سائلي ما الهوى اسمع إلى صفتي     الحب أعظم من وصفي ومقداري
ماء المدامع نار الشوق تحدره     فهل سمعت بماء فاض من نار

وقال آخر :

أسر الذي بي والدموع تبوح     وجسمي سقيم والفؤاد جريح
وبين ضلوعي لوعة لم أزل بها     أذوب اشتياقا والفؤاد صحيح

وقال علي بن عباس الرومي :

وحديثها السحر الحلال لو أنه     لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت     ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها     للمطمئن وعقلة المستوفز

[ ص: 135 ]

وقال حميد بن ثور :

منعمة لو يصبح الذر ساريا     على جلدها صبت مدارجها دما

وقال عمرو بن ربيعة :

لو دب ذر فوق ضاحي جلدها     لأبان من آثارهن حدودا

وقال الحسن بن هانئ :

كأن منثور رمان بوجنتها     لو دب فيها خيال الذر لانجرحا

وقال آخر

رق فلو دب به ذرة     منعلة أرجلها بالحرير
لأثرت فيه كما أثرت     مدامة في العارض المستدير

وأنشد أبو القاسم محمد بن نصر الكاتب لنفسه أبياته التي يقول في أولها :

لسانك ياقوت وثغرك لؤلؤ     وريقك شهد والنسيم عبير
فما لك في الدنيا عن الناس مشبه     ولا لك في حور الجنان نظير

لأن الحور لا نظير لهم في الدنيا وصفاتهم مشهورة في الكتاب ، والسنة ، نسأل الله من فضله الجنة .

قال ابن عبد البر نظر أبو حازم إلى امرأة حسناء ترمي الجمار وتطوف بالبيت وقد شغلت الناس بالنظر إليها لبداعة حسنها فقال لها أمة الله خمري وجهك فقد فتنت الناس وهذا موضوع رغبة ورهبة ، فقالت له إحرامي في وجهي أصلحك الله يا أبا حازم وأنا من اللواتي قال فيهن العرجي :

من اللاء لم يحججن يبغين جنة     ولكن ليقتلن التقي المغفلا

فقال أبو حازم لأصحابه تعالوا ندع أن لا يعذب الله هذه الصورة الحسنة بالنار ، فقيل له أفتنتك يا أبا حازم ؟ فقال لا ولكن الحسن مرحوم . [ ص: 136 ]

وذكر المدائني عن عبد الله بن عمر العمري قال : خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام أرفست فيه يقال أرفس في كلامه زوره وزخرفه قال : فأدنيت ناقتي منها وقلت يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله ؟ فسفرت عن وجه بهر الشمس حسنا ، فقالت تأمل يا عمري فإني ممن عناه العرجي بقوله :

أماطت كساء الحج عن حر وجهها     وأبدت على الخدين وردا مهللا
من اللاء لم يحججن يبغين جنة     ولكن ليقتلن البريء المغفلا
وترمي بعينيها القلوب ولحظها     إذا ما رمت لم تخط منهن مقتلا

قال : فقلت : فأنا أسأل الله أن لا يعذب هذا الوجه بالنار قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال : أما والله لو كان من بعض أهل العراق لقال أغربي قبحك الله ، ولكنه أظرف عباد أهل الحجاز قال عبد الله بن طاهر :

وجه يدل الناظرين     عليه في الليل البهيم
فكأنه روح الحياة     تهب مسك نسيم
في خده ورد الحياء     يعل بالماء النعيم
سقم الصحيح المستقل     وصحة الرجل السقيم



نظر رجلان إلى جارية حسناء في بعض طرق مكة فمالا إليها واستسقياها فسقتهما فجعلا يشربانه ولا يسيغانه فعرفت ما بهما فجعلت تقول :

هما استسقيا ماء على غير ظمأة     ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما

فعجبا من ذلك فدفعا الإناء إليها فمرت وهي تقول :

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

[ ص: 137 ]

دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان . فقال يا شعبي بلغني أن اختصم إليك رجل وامرأة فقضيت للمرأة على زوجها فقال فيك شعرا فأخبرني بقصتهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته ، فقال يا أمير المؤمنين لا تسألني عن ذلك ، فقال عزمت عليك لتخبرني قال نعم اختصمت إلي امرأة وبعلها فقضيت للمرأة إذ توجه القضاء لها فقام بعلها أو الرجل وهو يقول :

فتن الشعبي لما     رفع الطرف إليها
بفتاة حين قامت     رفعت مالتيها
ومشت مشيا رويدا     ثم هزت منكبيها
فتنته بقوام     وبخطي حاجبيها
وبنان كالدراري     وسوادي مقلتيها
قال للزوج قرب     ها وأحضر شاهديها
فقضى جورا علينا     ثم لم يقض عليها
كيف لو أبصر منها     نحرها أو ساعديها
لصبا حتى تراه     ساجدا بين يديها
بنت عيسى بن جراد     ظلم الخصم لديها

فقال عبد الملك : فما صنعت يا شعبي قال : أوجعت ظهره حين جورني في شعره قال ابن عبد البر هكذا رواه سفيان بن عيينة عن سالم بن أبي حفصة عن الشعبي وهو أصح إسناد لهذا الخبر .

قال إسحاق بن إبراهيم :

إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه     لا حظ لي فيه إلا لذة النظر

كان يقال أربعة تزيد في النظر أو في البصر .

النظر إلى الوجه الحسن وإلى الخضرة ، وإلى الماء ، والنظر في المصحف . دخل الشعبي سوق الرقيق فقيل له : هل من حاجة ؟ فقال : حاجتي صورة حسنة يتنعم بها طرفي ، ويلتذ بها قلبي ، وتعينني على عبادة ربي [ ص: 138 ] قال الحسن البصري ينبغي للوجه الحسن أن لا يشين وجهه بقبح فعله ، وينبغي لقبيح الوجه أن لا يجمع بين قبيحين قال الشاعر :

إن حسن الوجه يحتاج     إلى حسن الفعال
حاجة الصادي من الماء     إلى العذب الزلال



بعث عبد الملك بن مروان إلى اليمن عسكرا فأقاموا سنين فقالت امرأة يزيد بن سنان :

تطاول هذا الليل فالعين تدمع     وأرقني حزن بقلبي موجع
فبت أقاسي الليل أرعى نجومه     وبات فؤادي هائما يتفزع
إذا غاب منها كوكب في مغيبه     لمحت بعيني آخرا حين يطلع
إذا ما تذكرت الذي كان بيننا     وجدت فؤادي للهوى يتقطع
وكل حبيب ذاكر لحبيبه     يرجي لقاه كل يوم ويطمع
فذا العرش فرج ما ترى من صبابتي     فأنت الذي ترعى أموري وتسمع
دعوتك في السراء والضر دعوة     على علة بين الشراسيف تلذع

فسأل عبد الملك كم تصبر المرأة عن زوجها ، قالوا ستة أشهر فأمر أن لا يمكث العسكر أكثر من ستة أشهر قال الشراسيف مقاطع الأضلاع وهي أطرافها التي تشرف على البطن ويقال الشرسوف غضروف معلق بكل ضلع مثل غضروف الكتف .

التالي السابق


الخدمات العلمية