الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 290 ] فصل ( في أفضل المعاش والتجارة وأحسن الحرف والصناعات ) .

أفضل المعاش التجارة وأفضلها في البز والعطر والزرع والغرس والماشية وأنقصها في الصرف ذكر ذلك كله في الرعاية الكبرى وقال فيها في موضوع آخر : أفضل الصنائع الخياطة وأدناها الحياكة والحجامة ونحوهما وأشدها كراهة الصبغ والصياغة والحدادة ونحو ذلك من الصنائع الدنية وقال فيها أيضا ويكره كسب الحجام والفاصد ونحوه وعسب الفحل والماشطة ونحوه النائحة والبلان والمزين والجرائحي والصائغ والصباغ والحداد وقيل والبيطار ونحوه ذلك وروى الخلال أن امرأة ماشطة جمعت مالا من ذلك فجاءت إلى أبي عبد الله وقالت أريد أن أحج ؟ فقال أبو عبد الله لا تحجي به ، ليس ههنا أحل من الغزل .

وذكر بعضهم أن أحمد سئل عن كسب الماشطة أتحج منه قال لا غيره أطيب منه وقال المروذي سمعت امرأة تقول جاءت امرأة إلى أبي عبد الله من هؤلاء الذين يمشطون فقالت إني أصل رأس المرأة بقرامل وأمشطها أترى أن أحج مما أكتسب ؟ فقال لا وكره كسبها لنهي النبي صلى الله عليه وسلم وقال تكون من مال أطيب منه ، وكلامه في المغني يقتضي أن الفصد ونحوه لا كراهية فيه وأن الحكم يختص بالحجامة .

وقد قال ابن حزم في الصيد اتفقوا أن مكاسب الصناع من الصناعات المباحة حلال واختلفوا في كسب الحجام وذكر في الرعاية وغيرها أنه يكره كسب الحمامي قال وحمامية النساء أشد كراهة وذكر الأزجي في نهايته أن الصحيح أن الحمامي لا يكره كسبه [ ص: 291 ]

وقال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس وقد أجمع العلماء أن أشرف الكسب الغنائم وما أوجف عليه بالخيل والركاب إذا سلم من الغلول وقد سمى الله الجهاد تجارة منجية من عذاب الله الأليم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفضل الكسب عمل اليد وكل بيع مبرور } وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { أفضل الكسب كسب الصانع بيده إذا صح } .

وقال ابن شهاب { مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي وهو يبيع شيئا فقال عليك بأول سومة أو قال أول السوم فإن الربح مع السماح } وقيل للزبير رضي الله عنه بم بلغت هذا المال قال إني لم أرد ربحا ولم أستر عيبا .

وقال معاوية رضي الله عنه لقوم ما تجارتكم ؟ قالوا بيع الرقيق قال بئس التجارة ، ضمان نفس ، ومؤنة ضرس .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحسن ما يكون في عينك وقال أيضا إذا اشتريت بعيرا فاشتره ضخما فإن لم توافق كرما وافقت لحما ، وأنشد ابن شهاب الزهري رحمه الله :

ألا كل من يهدى له البيع يرزق وقد يصلح المال القليل الترفق

ولمنصور الفقيه :

بنية لا تجزعي واصبري     عساك بصبرك أن تظفري
فلو نال يوما أبوك الغنى     كساك الدبيقى والتستري
ولكن أبوك ابتلي بالعلوم     فما أن يبيع ولا يشتري



وروى أحمد بإسناد ضعيف عن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { قد أعطيت خالتي غلاما وأنا أرجو أن يبارك الله لها فيه ، وقد نهيتها أن تجعله حجاما أو قصابا أو صائغا } . قال أبو داود الطيالسي في مسنده ثنا همام عن فرقد السبخي عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أكذب الناس الصباغون والصواغون } فيه ضعف ، وقد رواه الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي وابن حبان في الضعفاء وابن عدي وغيرهم

قال ابن عقيل [ ص: 292 ] رحمه الله بعد أن ذكر هذا الخبر وهذا صحيح ; لأن أحدهم يعد ويخلف قال وقيل ; لأنه يقول من الأصباغ ما لا يمكنه صبغه فإذا تحرى الواحد منهم الصدق والثقة فلا طعن عليه .

وقال ابن عقيل ويكره تعمد الصنائع الرديئة مع إمكان ما هو أصلح منها وقال ابن الجوزي ويكره أن يكون جزارا ; لأنه يوجب قساوة القلب أو حجاما أو كناسا لما فيه من مباشرة النجاسة ، وفي معناه الدباغ انتهى كلامه .

قال المروزي سألت أبا عبد الله عن كسب الحجام فكرهه وقال لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ما أعطيناه قال ابن حمدان رحمه الله وينبغي أن يكون في كل بلد طبيب وكحال وجرائحي وطحان وخباز ولحام وطباخ وشواء وبيطار وإسكاف وغير ذلك من الصنائع المحتاج إليها غالبا كتجارة وقصارة ومكاراة ووارقة .

قال القاضي يستحب إذا وجد الخير في نوع من التجارة أن يلزمه وإن قصد إلى جهة من التجارة فلم يقسم له فيه رزق عدل إلى غيره لما روى ابن أبي الدنيا عن موسى بن عقبة مرفوعا { إذا رزق أحدكم في الوجه من التجارة فليلزمه } .

وبإسناده عن ابن عمر قال من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب منه شيئا فليتحول منه إلى غيره فقال ابن عبد البر كان يقال إذا لم يرزق الإنسان ببلدة فليتحول إلى أخرى قال وقال ابن القاسم سمعت مالكا يقول : بلغني أن عمر بن الخطاب قال من كان له رزق في شيء فليلزمه قال وقال مالك سمعت أهل مكة يقولون ما من أهل بيت فيهم من اسمه محمد إلا رزقوا ورزق خيرا . [ ص: 293 ]

قال القاضي أبو يعلى والمستحب منها البز لما روى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم استشاره رجل في البيوع فأشار عليه بالبز وقال إنك إذا عالجت البز أحببت الخصب للمسلمين وكذا وكذا } وعد أشياء وبإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن أهل الجنة لو تبايعوا ولا يتبايعون ما تبايعوا إلا البز } قال وروى بإسناده عن عمر رضي الله عنه قال لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فأتني ربحه لم يفتني ريحه .

وعن أبي حميد الساعدي مرفوعا { أجملوا في طلب الدنيا فإن كلا ميسر لما خلق له } رواه ابن ماجه من رواية ابن عباس عن عمارة بن غزية المدني وهو عن غير الشاميين ضعيف عند الأكثر ولابن ماجه أيضا عن جابر مرفوعا { اتقوا الله وأجملوا في الطلب } .

وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن أبي أمية عن يونس بن كثير عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس من عمل يقربكم من الجنة إلا قد أمرتكم به ، ولا عمل يقرب من النار إلا قد نهيتكم عنه ، ولا يستبطئن أحد منكم فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه ، فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحدكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته } .

ورواه الشافعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا وأظن ابن ماجه روى من حديث أنس ومن حديث عائشة قوله عليه السلام { من بورك له في شيء فليلزمه } أو هذا المعنى . وعن ابن مسعود مرفوعا { لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا } . إسناده حسن ، ورواه أحمد والترمذي وحسنه

قال في النهاية الضيعة في الأصل المرة من الضياع وضيعة الرجل في هذا ما يكون منه معاشه كالصنعة [ ص: 294 ] والتجارة والزراعة وغير ذلك ومنه الحديث { أفشى الله ضيعته } أي أكثر عليه معاشه . ومنه حديث ابن مسعود { لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا } .

وقال الشيخ يحيى بن يحيى الأزجي الحنبلي رحمه الله في كتاب النهاية له : اختلف الناس في أطيب الاكتساب فقال قوم الزراعة وقال صاحب النهاية وهو الأشبه عندي لما فيه من الاستسلام لقضاء الله والتوكل عليه وهو خارج من بركة الأرض فهو أبعد من الشبهة وقال قوم التجارة أطيب ; لأن الله تعالى صرح بإحلال ذلك في كتابه ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعاطون التكسب بهذه الطريق غالبا وقال قوم الكسب بالصناعة أطيب لقوله عليه السلام { أحل ما أكل الرجل من كسبه } ولأن الإنسان يباشر العمل فيها بكد يده انتهى كلامه .

وقال عباس الدوري سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول وسئل عن الدقاقين فقال : إن أموالا جمعت من عموم المسلمين إنها لأموال سوء ، والظاهر أن المراد بالدقاقين والله أعلم الذين يتجرون في الدقيق وذلك لما فيه من احتكار الأقوات وإرادة غلائها وغير ذلك مما هو سبب في إضرار المعصومين وهو ضرر عام فالأموال المجموعة من التجارة في ذلك أموال سوء واحتج به القاضي على كراهة التجارة في القوت والطعام .

وقال الشيخ تقي الدين يكره للرجل أن يحب غلو أسعار المسلمين ويكره الرخص ويكره المال المكسوب من ذلك كما قال من قال من الأئمة إن مالا جمع من عموم المسلمين لمال سوء .

وقد روى البخاري وغيره عن جندب مرفوعا { من سمع سمع الله به يوم القيامة ، ومن يشاقق يشقق الله عليه يوم القيامة قالوا أوصنا قال إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل ، ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين أهل الجنة ملء كف من دم أهراقه فليفعل } .

التالي السابق


الخدمات العلمية