الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 467 ] فصل في المفاضلة بين العزلة والمخالطة واختلف الناس في الأفضل من الخلطة والعزلة على مذهبين وعن الإمام أحمد رحمه الله عنه في ذلك روايتان : قال : في رواية أبي الصقر وقد سأله عنها إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزلها الرجل حيث شاء فأما ما لم يكن فتنة ، فالأمصار خير .

قال أحمد : ثنا حجاج ثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال الأعمش : هو ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم } كلهم ثقات رواه الترمذي عن ابن المثنى عن ابن أبي عدي عن شعبة وقال : قال ابن أبي عدي : كان شعبة يرى أنه ابن عمر .

وقال الحسن بن محمد بن الحارث : قلت : لأبي عبد الله : التخلي أعجب إليك ؟ فقال التخلي على علم وقال : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم } ثم قال أبو عبد الله : رواية شعبة عن الأعمش ثم قال : { من يصبر على أذاهم } .

وقال إسحاق بن إبراهيم : في الأدب من مسائله عن أحمد قال : قال أبو سنان : { وجاءه رجلان فقال : تفرقا فإنكما إذا كنتما جميعا تحدثتما ، وإذا كنتما وحدانا ذكرتما الله تعالى } قال أبو عبد الله : رواه وكيع عن أبي سنان .

قال القاضي أبو الحسين : إنه نقل من الجزء الثالث من الأدب تأليف المروذي قال : قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل : كفى بالعزلة علما ، وإنما الفقيه الذي يخشى الله .

وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة .

وقال أبو الفرج بن الجوزي : وقد كان أكثر السلف يؤثرون العزلة على الخلطة وقال أيضا : إن من قدر على نفع الناس بماله أو بدنه لقضاء حوائجهم مع القيام بحدود الشرع إنه [ ص: 468 ] أفضل من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلاة والأعمال البدنية ، وإن كان ممن انفتح له طريق عمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر فذلك الذي لا يعدل به ألبتة .

وقال أيضا : ليس في الدنيا أطيب من تنزه العالم بالعلم فهو أنيسه وجليسه ، وقد قنع بما يسلم به دينه من المباحات الحاصلة لا عن تكلف ولا عن تضييع دين ، وارتدى بالعزلة عن الذل للدنيا وأهلها ، والتحف بالقناعة باليسير إذا لم يقدر على الكثير فيسلم دينه ودنياه ، واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ويفرجه في البساتين ، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة ، ولكن لا يصح هذا إلا للعالم ، فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط .

وقال أيضا : فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقا خطأ ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله وإلى الخلط وحاله وإلى الباعث على مخالطته وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد ، ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين الحق فقد قال الشافعي رضي الله عنه : الانقباض عن الناس مكسبة العداوة ، والانبساط لهم مجلبة لقرناء السوء ، فكن بين القبض والبسط ، ومن ذكر سوى هذا فهو قاصر ، وإنما هو إخبار عن حاله فلا يجوز أن يحكم بها على غيره المخالف له في الحال انتهى كلامه .

وقال أبو زكريا النواوي رحمه الله مذهب الشافعي وأكثر العلماء على أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، وقطع به في موضع آخر عن الإمام أحمد ، وقد صنف الخطابي رحمه الله كتابا في العزلة ، وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خالط الناس وزايلهم ودينك لا تكلمنه قال : الخطابي يريد خالطهم ببدنك وزايلهم بقلبك ، وليس هذا من باب النفاق ، ولكنه من باب المداراة وقد قال : صلى الله عليه وسلم { مداراة الناس صدقة } وعن الحسن قال كانوا يقولون : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول : هي العقل كله .

وعن محمد بن الحنفية قال : ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من [ ص: 469 ] لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله فرجا أو قال مخرجا وأنشد المتنبي :

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد

والخبر المرفوع الذي ذكره الخطابي سبق وما يتعلق به في أوائل الكتاب قبل فصول التوبة ورواه ابن حبان في صحيحه عن جماعة عن المسيب بن واضح عن يوسف بن أسباط عن الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا فذكره ، وهو حديث حسن وقال ابن حبان : والمدراة التي تكون صدقة المداري . هو تخلق الإنسان بالأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته ما لم يشبها معصية الله . والمداهنة هي استعمال المرء الخصال التي تستحسن منه في العشرة ، وقد يشوبه ما يكره الله تعالى .

وقال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ في آخر جزء جمعه في فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم : ثنا يحيى بن صاعد ثنا محمد بن أحمد بن يزيد المدني ثنا هارون بن يحيى الحاطبي ثنا عثمان بن عثمان بن خالد بن الزبير عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي قال : { التودد نصف الدين } هارون بن يحيى وعثمان لم أجد لهما ترجمة ، وذكر ابن عبد البر قول رسول الله : صلى الله عليه وسلم { مداراة الناس صدقة } وقوله : عليه السلام { أمرني ربي بمداراة الناس ونهاني عن مداجاتهم } .

وقوله : عليه السلام { رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس } قال عمر : رضي الله عنه إن مما يصفي لك ود أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه وأن توسع له في المجلس قال بعض الحكماء : رأس المداراة ترك المماراة ، وفي الحديث المرفوع { إذا أحب الله عبده ألقى عليه محبة الناس } .

أخذه الشاعر : [ ص: 470 ]

وإذا أحب الله يوما عبده     ألقى عليه محبة في الناس

وذكر ابن عبد البر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا أنبئكم بشراركم قالوا : بلى يا رسول الله قال : من لا يقبل عثرة ، ولا يقبل معذرة ، ألا أنبئكم بشر من ذلكم قالوا : بلى يا رسول الله قال : من يبغض الناس ويبغضونه } .

وروي أن داود عليه السلام جلس كئيبا خاليا فأوحى الله إليه يا داود ما لي أراك خاليا قال : هجرت الناس فيك قال : أفلا أدلك على شيء تبلغ به رضائي ؟ خالق الناس بأخلاقهم واحتجر الإيمان فيما بيني وبينك قال أكثم بن صيفي : من شدد نفر ، ومن تراخى تألف ، والسرور في التغافل قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : شرط الصحبة إقالة العثرة ، ومسامحة العشرة ، والمواساة في العسرة قيل للعتابي : إنك تلقى الناس كلهم بالبشر قال : دفع ضغينة بأيسر مؤنة ، واكتساب إخوان بأيسر مبذول قال محمود الوراق :

أخو البشر محمود على كل حالة     ولم يعدم البغضاء من كان عابسا
ويسرع بخل المرء في هتك عرضه     ولم أر مثل الجود للعرض حارسا

وقال آخر :

وكم من أخ لا تحتمل منه علة     قطعت ولم يمكنك منه بديل
ومن لم يرد إلا خليلا مهذبا     فليس له في العالمين خليل

وقال آخر :

وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا     فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا     فإنك لا تدري متى أنت راجع

هذا مأخوذ من الحديث وروي مرفوعا وموقوفا وهو في الترمذي { أحبب حبيبك هونا ما ، فعسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما ، فعسى أن يكون حبيبك يوما ما } [ ص: 471 ] قال أبو العتاهية :

قل لمن يعجب من حسن     رجوعي ومقالي
رب صد بعد ود     وهوى بعد تقالي
قد رأينا ذا كثيرا     جاريا بين الرجال

قالوا : لا خير في الناس ولا بد من الناس ، وسبق ما يتعلق بهذا بعد فصول الأمر بالمعروف فيما للمسلم على المسلم وفي أوائل الكتاب بعد فصول التوبة ويأتي أيضا في آخر الكتاب ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { وسئل أي الناس خير قال رجل يجاهد في سبيل الله ، ثم مؤمن في شعب من الشعاب يتقي ربه ويدع الناس من شره } .

وقال عمر رضي الله عنه : الطمع فقر واليأس غنى ، والعزلة راحة من جليس السوء ، وقرين الصدق خير من الوحدة .

وقال أبو الدرداء : رضي الله عنه نعم صومعة الرجل بيته يصون دينه وعرضه ، وإياكم والأسواق فإنها تلغي وتلهي وقال مكحول إن كان في الجماعة فضل فإن في العزلة سلامة وقال عمر رضي الله عنه خالطوا الناس في معايشكم وزائلوهم بأعمالكم .

وقال أبو الدرداء كان الناس ورقا لا شوك فيه وهم اليوم شوك لا ورق فيه ، يقال : إن في الإنجيل فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام كن وسطا وامش جانبا وقال بعضهم :

يا حبذا الوحدة من أنيس     إذا خشيت من أذى الجليس

وقال سفيان : ما وجدت من يغفر لي ذنبا ولا يستر علي زلة فرأيت في الهرب من الناس سلامة .

وقيل : للفضيل بن عياض دلني على رجل أجلس إليه قال : تلك ضالة لا توجد وقال بعضهم :

لا تعرفن أحدا فلست بواجد     أحدا أضر عليك ممن تعرف
أما نظيرك فهو حاسد نعمة     أو دون ذاك فذو سؤال ملحف
أو فوق ذلك حال دون لقائه     بواب سوء واليفاع المشرف

وللشافعي أو لمنصور الفقيه . وقيل : إنه تمثيل به : [ ص: 472 ]

ليت السباع لنا كانت مجاورة     وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها     والناس ليس بهاد شرهم أبدا
فاهرب بنفسك واستأنس بوحدتها     تعش سليما إذا ما كنت منفردا

وقال أبو العتاهية :

يا رب إن الناس لا ينصفونني     وإن أنا لم أنصفهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه     وإن جئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم     وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها     وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهم     وأحجب عنهم ناظري وجفوني

وقال آخر :

قد كنت عبدا والهوى مالكي     فصرت حرا والهوى خادمي
وصرت بالوحدة مستأنسا     من شر أولاد بني آدم
ما في اختلاطي بهم خير ولا     ذو الجهل بالأشياء كالعالم
يا عاذلي في تركهم جاهلا     عذري منقوشا على خاتمي

وكان على خاتمه منقوش { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } وذكر ابن عبد البر : وأنشد الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي راوي البخاري يتوشح لنفسه :

كان في الاجتماع للناس نور     فمضى النور وادلهم الظلام
فسد الناس والزمان جميعا     فعلى الناس والزمان السلام

وقال ابن عقيل في الفنون بعد أن ذكر قوله تعالى : [ ص: 473 ] { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } قال : وكان ذلك ممتنعا من جهة الخلقة والصورة ، وعدما من جهة المنطق والمعرفة ، فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق ، وإذا كان كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم فخذ حذرك قال : ولذلك رأى الحكماء أن السلامة من آفات السباع الضارية أمكن من السلامة من شر الناس انتهى كلامه وقد قيل :

لقاء الناس ليس يفيد شيئا     سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا     لكسب معيشة وصلاح حال

وقيل أيضا :

والله لو كانت الدنيا بأجمعها     تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا
ما كان من حق حر أن يذل لها     فكيف وهي متاع يستحيل غدا

.

التالي السابق


الخدمات العلمية