الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وقال من الغلط العظيم أن يتكلم في حاكم معزول بما لا يصلح فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم ، وفي الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلا وينبغي أن يحسن إلى كل أحد خصوصا من يجوز أن تكون له ولاية وأن يخدم المعزول فربما نفع في ولايته إلى أن قال فالعاقل من تأمل العواقب وراعاها وصور كل ما لا يجوز أن يقع فعمل بمقتضى الحزم ، وأبلغ من هذا تصور وجود الموت عاجلا ; لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض فالحازم من استعد له وعمل عملا لا يندم إذا جاء انتهى كلامه .

وقال أيضا من جرت بينك وبينه مخاشنة فإياك أن تطمع في مصافاته وأن تأمله فإنه لا يزال يرى ما فعلت والحقد كامن ، وقال أما العوام فالبعد عنهم متعين ; لأنهم ليسوا من الجنس فإذا اضطررت إلى مجالستهم فلحظة يسيرة بالهيبة والحذر ، فربما قلت كلمة فشنعوها ولا تلق الجاهل بالعلم ولا اللاهي بالفقه ، ولا الغبي بالبيان بل مل إلى مسالمتهم بلطف [ ص: 583 ] مع هيبة وأما الأعداء فلا ينبغي أن تحتقرهم ، فإن لهم حيلا باطنة والواجب مداراتهم ومصالحتهم في الظاهر ومن جنسهم الحساد فلا ينبغي أن يطلعوا على النعم فإن العين حق ومداراتهم لازمة وقال أبو بكر الأرجاني :

ولما بلوت الناس أطلب منهم أخا ثقة عند اعتراض الشدائد     تطمعت في حالي رخاء وشدة
وناديت في الأحياء هل من مساعد     فلم أر فيما ساءني غير شامت
ولم أر فيما سرني غير حاسد

وقال آخر :

من كان يأمل أن يسود عشيرة     فعليه بالتقوى ولين الجانب
ويغض طرفا عن مساوي من أسى     منهم ويحلم عند جهل الصاحب



وقال ابن عقيل في الفنون : إن حدثتك نفسك بوفاء أصحاب الزمان فقد كذبتك الحديث ما صدقتك الخبر هذا سيد البشر مات وحقوقه على الخلق أجمعين لحكم البلاغ ، والشفاعة في الأخرى .

وقد قال تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقد شبع به الجائع ، وعز به الذليل فقطعوا رحمه وضل أولاده بين أسير ، وقتيل ، وأصحابه قتلى : عمر في المسجد وعثمان في داره هذا مع إسداء الفضائل وإقامة العدل والزهد ، اطلب لخلفك ما كان لسلفك وقال لا ينبغي لعاقل أن يعرف بعادة فيدهى منها مثل أن يصعب عليه أمر فيقصد به ويؤذى ، أو يعرف أنه يحب أمرا فيؤاخذ به وحكي أن رجلا كان معروفا بأخذ الفأل فاشترك جماعة على حيلة يأخذون بها مالا فقصده واحد منهم على دفعه بضاعة أو قرضا وجلس الشركاء في الحيلة على بعد فنادى أحدهم صاحبه استخر الله فهذه جهة مباركة وقال الآخر نعم [ ص: 584 ] ما هو إلا صواب فلما سمع ذلك قويت عزيمته على دفعه وكان آخر يأكل ما يجده من الفتات ، فجعل له في فتاته سم فأكله فمات ، فاحذر من اغتفال الأعداء .

وقال أيضا إن أبناء الزمان لا بقاء لهم على حال بينما نرى أحدهم على المحبة والشغف ، حتى ترى أحدهم على ضد ذلك من الملل والضجر ، فالعاتب لهم ظالم ، كما أن الواثق بهم خائب ; لأنهم إذا حقق النظر في أحوالهم يراهم في أسر المقادير مسلطات الأقضية والتصريف ، ثم الدهر موصوف بالاستحالة فكيف أبناؤه فإذا أوقع الله سبحانه الوحشة بينك وبين الخلق فإنما يصرفك إليه ويندبك إلى التعلق به ، فاحمد إساءتهم إليك فإنهم لو أحسنوا معك الصنيع لقطعوك عنه ; لأنك ابن لقمة وابن كلمة طيبة أدنى شيء يقتطعك إليهم .

وقال أيضا : لا تطلب من متجدد الرياسة أخلاقه معك حال العطلة فيرفضك ويؤذيك فتكون كالمعلم يتخلق مع من كان يعلمه بعد كبره كتخلقه معه حال كونه في الكتب ، وذاك بمثابة من يطلب من السكران أخلاق الصحابي فإن للرياسة سكرا ولولا ذاك ما قال الله عز وجل : { فقولا له قولا لينا } .

وبينه في قوله تعالى : { هل لك إلى أن تزكى } .

فأخرجه مخرج السؤال لا الأمر لموضع تجبره وكذلك من كان له [ ص: 585 ] أو لسلفه ولاية ومنصب ودولة وقد أفضى به الدهر إلى العطلة لا يقتضي أو لا ينبغي معاملته بماضي الرياسة وقال في قصيدة كبيرة :

أخوك الذي إن تدعه لعظيمة     يجبك وإن تغضب إلى السبق يغضب

.

التالي السابق


الخدمات العلمية