الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 155 ] فصل ( في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .

الأمر بالمعروف وهو كل ما أمر به شرعا ، والنهي عن المنكر وهو كل ما ينهى عنه شرعا فرض عين وهل هو بالشرع أو بالعقل ؟ مبني على التحسين والتقبيح ذكره القاضي وغيره على من علمه جرما وشاهده وعرف ما ينكر ولم يخف سوطا ولا عصا ولا أذى .

زاد في الرعاية الكبرى يزيد على المنكر أو يساويه ولا فتنة في نفسه أو ماله أو حرمته أو أهله ، وأطلق القاضي وغيره سقوطه بخوف الضرب والحبس وأخذ المال ، وإنه ظاهر نقل ابن هانئ في إسقاطه بالعصا خلافا للمعتزلة وأبي بكر بن الباقلاني ، وأسقطه القاضي أيضا بأخذ المال اليسير قال أيضا وقيل له قد أوجبتم عليه شراء الماء بأكثر من ثمن مثله قال إنما أوجبنا ذلك إذا لم تجحف الزيادة بماله ، ولا يمتنع أن يقال مثله هنا .

ولا يسقط فرضه بالتوهم ، فلو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه كذلك قال ، وإذا لم يجب الإنكار لظننا زيادة المنكر خرج عن كونه حسنا لأن ما أزال وجوبه أزال حسنه .

ويفارق هذا إذا ظننا أن المنكر لا يزول وأنه يحسن الإنكار وإن لم يجب كما يقاتل الكفار والبغاة والخوارج وإن ظن إقامتهم على ذلك . انتهى كلامه فقد صرح بأن فرضه لا يسقط بالتوهم . وقوله وإذا لم يجب الإنكار لظننا زيادة المنكر ظاهره أنه لا يسقط إلا بالظن .

وكلام الإمام أحمد والأصحاب رحمهم الله إنما اعتبروا الخوف وهو ضد الأمن ، وقد قالوا يصلي صلاة الخوف إذا لم يؤمن هجوم العدو .

وقال ابن عقيل في آخر الإرشاد من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة . [ ص: 156 ]

قال أحمد رحمه الله في رواية الجماعة إذا أمرت أو نهيت فلم ينته فلا ترفعه إلى السلطان لتعدي عليه فقد نهي عن ذلك إذا آل إلى مفسدة وقال أيضا من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف ، وكذا قاله جمهور العلماء رضي الله عنهم .

وحكى القاضي عياض عن بعض وجوب الإنكار مطلقا في هذه الحال وغيرها وعن أبي سعيد مرفوعا { لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله عز وجل عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل ما منعك أن تقول فيه ، فيقول يا رب خشيت الناس ، فيقول فأنا أحق أن يخشى وفي رواية لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق الله عز وجل إذا رآه أو شهده أو سمعه } رواهما أحمد وابن ماجه وزاد فبكى أبو سعيد وقال والله قد رأينا أشياء فهبنا .

ولهما من حديثه { إن أحدكم ليسأل يوم القيامة حتى يكون فيما يسأل عنه أن يقال ما منعك أن تنكر المنكر إذا رأيته ؟ فمن لقنه الله حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس } .

وعن حذيفة مرفوعا { لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه قيل كيف يذل نفسه قال يتعرض من البلاء ما لا يطيق } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح ، وقيل إن زاد وجب الكف ، وإن تساويا سقط الإنكار .

قال ابن الجوزي فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب ، وظاهر كلام غيره أنه عذر لأنه أذى ، ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا ، وقد قال له أبو داود ويشتم قال يحتمل من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك .

قال الشيخ تقي الدين الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين إما تعطيل الأمر والنهي . [ ص: 157 ]

وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها وكلاهما معصية وفساد قال تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } .

فمن أمر ولم يصبر أو صبر ولم يأمر أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر ، وفي الصحيحين عن عبادة قال { بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم } .

{ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور وأمر بالصبر على جورهم ونهى عن القتال في الفتنة } فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلما ، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة وهؤلاء يقابلونك لأولئك .

ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان ، وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابا مفردا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما صنف الخلال والدارقطني ( في ) ذلك انتهى كلامه قال الأصحاب : ورجا حصول المقصود ولم يقم به غيره

وقال [ ص: 158 ] القاضي أبو يعلى في كتاب المعتمد ويجب إنكار المنكر وإن لم يغلب في ظنه زواله في إحدى الروايتين نقلها أبو الحارث وقد سأله عن الرجل يرى منكرا ويعلم أنه لا يقبل منه ويسكت ؟ فقال إذا رأى المنكر فليغيره ما أمكنه . هو الذي ذكره أبو زكريا النووي عن العلماء قال كما قال تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ } .

وفيه رواية أخرى لا يجب حتى يعلم زواله نقلها حنبل عن أحمد فيمن يرى رجلا يصلي لا يتم الركوع والسجود ولا يقيم أمر صلاته فإن كان يظن أنه يقبل منه أمره ووعظه حتى يحسن صلاته . ونقل إسحاق بن هانئ : إذا صلى خلف من يقرأ بقراءة حمزة فإن كان يقبل منك فانهه . وذكر في كتاب الأمر بالمعروف وابنه أبو الحسين هل من شرط إنكار المنكر غلبة الظن في إزالة المنكر على روايتين ( إحداهما ) .

ليس من شرطه لظاهر الأدلة ( والثانية ) من شرطه وهي قول المتكلمين لبطلان الغرض ، وكذا ذكرهما القاضي فيما إذا غلب على الظن أن صاحب المنكر يزيد في المنكر .

وقال ابن عقيل إذا غلب على ظنه أنه لا يزول فروايتان ( إحداهما ) يجب ثم ذكر رواية حنبل السابقة وقال في رواية أخرى في الرجل يرى منكرا ويعلم أنه لا يقبل منه هل يسكت ؟ فقال يغير ما أمكنه .

وظاهره أنه لم يسقط وقال أيضا لا يجوز انتهى كلامه وقال في نهاية المبتدئين ، وإنما يلزم الإنكار إذا علم حصول المقصود ولم يقم به غيره ، وعنه إذا رجا حصوله وهو الذي ذكره ابن الجوزي وقيل ينكره وإن أيس من زواله أو خاف أذى أو فتنة وقال في نهاية المبتدئين [ ص: 159 ] يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله ، وإن خاف أذى قيل لا ، وقيل يجب ، والذي ذكره القاضي في المعتمد أنه لا يجب ويخير في رفعه إلى الإمام خلافا لمن قال يجب رفعه إلى الإمام ، ثم احتج القاضي بحديث عقبة وسيأتي .

وإذا لم يجب الإنكار فهو أفضل من تركه جزم به ابن عقيل قال القاضي خلافا لأكثرهم في قولهم ذلك قبيح ومكروه إلا في موضعين :

( أحدهما ) كلمة حق عند سلطان جائر .

( والثاني ) إظهار الإيمان عند ظهور كلمة الكفر انتهى كلامه .

وظاهر كلام أحمد أو صريحه عدم رؤية الإنكار في الموضع الأول وسيأتي قبيل فصول اللباس .

وقال أبو الحسين واختلفت الرواية هل يحسن الإنكار ويكون أفضل من تركه على روايتين ، وفيه رواية ثالثة أنه يقبح به قال بعض الفقهاء المتكلمين وجه الأولى اختارها ابن بطة والوجه قوله تعالى : { واصبر على ما أصابك } .

ووجه الثانية قوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } انتهى كلامه وذكر والده الروايتين قال أحمد في كتاب المحنة في رواية حنبل : إن عرضت على السيف لا أجيب ، وقال فيها أيضا إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق .

وقال القاضي وظاهر نقل ( ابن هانئ ولا يتعرض للسلطان فإن سيفه مسلول للنهي عنه قال واحتج المخالف بأن المضطر لو ترك أكل الميتة حتى مات أو تحمل المريض الصيام والقيام حتى ازداد مرضه أثم وعصى وإن كان في ذلك وجوب عزيمة كذا في مسألتنا والجواب أن هذه الأشياء تسقط بالضرر المتوهم لأن خوف الزيادة في المرض وخوف التلف بترك الأكل متوهم وليس كذلك الأمر بالمعروف لأنه لا يسقط فرضه بالتوهم لأنه لو قيل له لا تأمر على فلان [ ص: 160 ] بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه لذلك ، ولأن منفعة تلك الأشياء تختصه ومنفعة الأمر بالمعروف تعم ، ولأن سبب الإتلاف هناك بمعنى من جهته وهنا من جهة غيره ) . قال أبو داود سمعت أبا عبد الله يقول نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم ، وإن أنكر بيده فهو أفضل .

قال عباس العنبري كنت مارا مع أبي عبد الله بالبصرة قال فسمعت رجلا يقول لرجل يا ابن الزاني قال : فقال له الآخر يا ابن الزاني قال : فوقفت ومضى أبو عبد الله فالتفت إلي فقال يا أبا الفضل أي شيء قال ؟ قلت : قد سمعنا قد وجب علينا قال : امض ليس هذا من ذلك . ترجم عليه الخلال : ما يوسع على الرجل في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا رأى قوما سفهاء .

وقال القاضي عن رواية أبي داود وظاهر هذا أنه غير واجب قال وكذلك نقل أبو علي الدينوري أنه سئل على الرجل يرى منكرا أيجب عليه تغييره ؟ فقال إن غير بقلبه أرجو ، وذكر أبو حفص العكبري ' عن أبي عبد الله بن بطة ما يدل على هذا قال القاضي وهو محمول من كلامه على أن هناك من يقوم به أو على أن هناك ما يمنعه من الإنكار بيده .

التالي السابق


الخدمات العلمية