الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم ، وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد مع ابن طاهر ، والزجاج مع ابن وهب ، ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان حتى قال ابن المبارك : لولا فلان وفلان ما اتجرت ، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيرهم ، ثم قال ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة فيندفع الزمان ، وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم فطلب لم يعط ، فأولى الناس بحفظ المال وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه ، والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين وله أنفة من الذل .

وقد قال منصور بن المعتمر : إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي ، وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس فيخرجون إلى جبل فيموتون فيه . فإذا اتفق للعالم عائلة ، وحاجات وكفت أكف الناس عنه ، ومنعته أنفته من الذل هلك ، فالأولى لمثل هذا ( العالم ) في هذا الزمان المظلم أن يجتهد في كسب إن قدر عليه ، وإن أمكنه نسخ بأجرة ، ويدبر ما يحصل له ، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل .

وقد يتفق للعالم مرفق ، فينفق ، ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم ، فيخرج ما في يده فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر ، أو من الذل ما يكون الموت دونه .

[ ص: 220 ] فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة ، بل يصور كل ما يجوز وقوعه .

وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب ، فكم من مخاصم سب وشتم وطلق ، فلما أفاق ندم ، وقد كان يوسف بن أسباط يزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه ، وقد تزهد خلق كثير ، فأخرجوا ما بأيديهم ، ثم احتاجوا فدخلوا في مكروهات ، وكان الشبلي يقدر على خمسين ألفا فتزهد ، وفرقها فنزل به قوم من الصوفية فبعث إلى بعض أرباب الدنيا يطلب منه فقال له يا شبلي : اطلب من الله عز وجل ، فقال له : أنا أطلب من الله عز وجل ، وأطلب الدنيا من خسيس مثلك ، فبعث إليه مائة دينار .

وقال ابن عقيل : إن كان بعث إليه اتقاء ذمه فقد أكل الشبلي الحرام ، وقد تزهد أبو حامد الطوسي ، وأقام سنين ببيت المقدس ، ثم عاد إلى وطنه فبنى دارا كبيرة وغرس بستانا . فمثل هذا المتزهد المخرج لماله كمعير لباسه ، كمثل ماء عمل له سكر فإنه يمنعه من الجريان ، ثم يعمل في باطن السكر إلى أن ينقب ، ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى شبانا قد تنسكوا يقول : الموت الموت جاءهم ، خوفا من تغيير حالهم . وكذلك مخرج المال في حال الغنى إذا لم يحسب وقوع الفقر .

وقد رأينا أبا الحسن الغزنوي وقد بنى له رباطا ببغداد ووقفت عليه قرية فكان يقول : يدخل لي في كل سنة ثلاثة آلاف وست مائة دينار فألف ومائتان لي ولأولادي ، وألف ومائتان لأهل الرباط ، وألف ومائتان للمجلس ، فكان يعطي العلماء والقراء والزهاد ولا يقبل منه أحد حتى إنه أفطر في رمضان عند الوزير أبي القاسم الزيني ، فبعث إليه خلعة قبل العيد وهذه عادتهم فيمن يفطر عندهم فحدثني الحاجب أنه حملها إليه فقال : لا أقبل ، قال : فقبحت له هذا وبالغت حتى قبل على مضض .

وكان يقول : عرضت علي خمسة آلاف دينار فدفعتها بهذه الأصابع الخمس ، وقلت : لا حاجة لي فيها ، وكان يظن دوام ما هو فيه فاتفق موت السلطان [ ص: 221 ] مسعود فأحضر باب الحاكم ووكل به وأخذت منه القرية فافتقر ، فحدثني محاسن بن حماد قال : كان بين الغزنوي وبين عبد الرحيم الملقب شيخ الشيوخ وحشة .

فلما افتقر الغزنوي بعث معي إليه بمائة دينار ورقعة بكارات دقيق فجئت بها إليه ، فقال : لا أقبل ، فردها عليه ، ثم التفت إلي لانبساط كان بيننا ، فقال لي : أغنني أنت بعشرة دنانير وخمس كارات ، فالصبيان جياع ، وكان يقول : من الناس من يحب الموت فمات قريبا . وقد كان يمكنه أن يشتري من دجلة قرى .

التالي السابق


الخدمات العلمية