الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 244 ] فصل ( في زوال الهجر ومسائل في الغيبة ومتى تباح بالسلام ) .

والهجر المحرم يزول بالسلام ذكره في الرعاية والمستوعب ، وزاد ولا ينبغي له أن يترك كلامه بعد السلام عليه ثم قال في المستوعب : والهجران الجائز هجر ذوي البدع أو مجاهر بالكبائر ولا يصل إلى عقوبته ، ولا يقدم على موعظته ، أو لا يقبلها ، ولا غيبة في هذين في ذكر حالهما قال في الفصول ليحذر منه ، أو يكسره عن الفسق ولا يقصد به الإزراء على المذكور ، والطعن فيه ولا فيما يشاور فيه من النكاح أو المخاطبة .

قال أبو طالب سئل أبو عبد الله عن الرجل يسأل الرجل يخطب إليه فيسأل عنه فيكون رجل سوء ، فيخبره { مثل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لفاطمة : معاوية عائل ، وأبو جهم عصاه على عاتقه } . يكون غيبة إن أخبره قال : { المستشار مؤتمن } يخبره بما فيه وهو أظهر ، ولكن يقول : ما أرضاه لك ونحو هذا حسن . وعن الحسن بن علي أنه سأل ، أبا عبد الله عن معنى الغيبة يعني في النصيحة قال : إذا لم ترد عيب الرجل .

وقال الخلال : أخبرني حرب سمعت أحمد يقول : إذا كان الرجل معلنا بفسقه فليست له غيبة أخبرنا أبو عتبة ثنا ضمرة أنبأنا ابن شوذب عن الحسن قال : ليس للفاسق المعلن بفسقه غيبة . أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن زيد بن أسلم قال : إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي وقال في رواية الفضل بن زياد في رجل صاحب قينات ومعازف يؤذي أهل المسجد إذا ذكر ما فيه لا يضر ; لأنه قد أعلن لا يضره إذا حدث الناس عنه .

وقال محمد بن يحيى الكحال لأبي عبد الله : الغيبة أن يقول في الرجل ما فيه قال : نعم . قلت : حديث بهز قال ليس له أصل ولفظه { أترغبون عن ذكر الفاسق كي يعرفه الناس ؟ اذكروه } ذكره القاضي [ ص: 245 ] وغيره وخبر بهز هذا له طرق عنه ، وهي ضعيفة قال بعضهم : وأمثلها الجارود بن يزيد وهو متروك .

وذكر ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس عن النبي : صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا غيبة فيهم الفاسق المعلن بفسقه ، وشارب الخمر ، والسلطان الجائر } قال : وقال أنس والحسن : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة فيه .

وقال الحجاج بن فرافصة قلت لمجاهد : الرجل يكون وقاعا في الناس فأقع فيه أله غيبة قال : لا قلت : من ذا الذي تحرم غيبته قال : رجل خفيف الظهر من دماء المسلمين ، خفيف البطن من أموالهم ، أخرس اللسان عن أعراضهم ، فهذا حرام الغيبة ، ومن كان سوى ذلك فلا حرمة له ولا غيبة فيه ، فهذه في غير النصيحة .

ورواية الكحال تحريم الغيبة مطلقا ، والأشهر عنه الفرق بين المعلن وغيره ، وظاهر الفصول والمستوعب أن من جاز هجره جازت غيبته ، ومرادهما والله أعلم ومن لا فلا ، ورواية الكحال أيضا تدل على تحريم لقب كالأعمش ، وقد تقدمت في أوائل الكتاب ، وأن رواية الأثرم تدل على جوازه إذا لم يعرف إلا به .

وقد احتج البخاري على غيبة أهل الفساد وأهل الريب بقوله عليه السلام في { عيينة بن حصن لما استأذن عليه : بئس أخو العشيرة } ويأتي ما يتعلق بهذا خبر عتبان بن مالك في إنكار المنكر المظنون ، وفي الصحيحين تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك { : ما فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه ، فقال له : معاذ بن جبل بئس ما قلت ، فسكت رسول الله } ، ففيه الطعن بالاجتهاد والظن ، وأن من ظن غلط الطاعن رد عليه ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على واحد منهما ومن الغيبة للتظلم قوله تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } .

وقال ابن هبيرة في حديث معاذ { : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها [ ص: 246 ] وبين الله حجاب ; } لقدرته سبحانه على العدل الذي أمر به قال : وعلى هذا أرى قوله تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } .

أن الاستثناء من الجنس ليس بمنقطع كما كان يقول الشيخ محمد بن يحيى الزبيدي . وذلك أن المظلوم إذا شكا إلى الله تعالى اقتضى عدل الله عز وجل الإيقاع بظالمه فيحب الله سبحانه وتعالى أن يجهر المظلوم بالشكوى ليكون المقدر والإيقاع بالظالم مبسوط العذر عند الخلق ، وزاجرا لأمثاله عن أمثال فاعله ، وإنما يمهل الظالم من جهة أن الخلق إذا ملك أحدهم مملوكين فجنى على أحدهم جناية ، فإن أرشها لسيده ، فالخلق ملك لله عز وجل ، فلا اعتراض عليه ، فلولا هذه الحالة لما كنت أطمع للظالم أن يؤخر الإيقاع به طرفة عين . انتهى كلامه .

والمروي عن ابن عباس في الآية : إلا أن يدعو المظلوم على من ظلمه فإن الله تعالى قد أرخص له . وعن الحسن والسدي إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه . وعن مجاهد أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه . وعنه أيضا إلا أن يجهر الضيف بذم من يضيفه . وقرأ عبد الله بن عمرو وجماعة من التابعين بفتح الظاء قال ثعلب : هي مردودة على { ما يفعل الله بعذابكم } ؟ { إلا من ظلم } وقيل : المعنى إلا أن يجهر الظالم بالسوء ظلما ، وقيل : إلا أن يجهروا بالسوء للظالم . فعلى هذا الاستثناء منقطع ، ومعناه لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء ، ولكن يجهر بالسوء واجهروا له بالسوء .

وقال ابن زيد { من ظلم } أي : أقام على النفاق فيجهر له بالسوء حتى ينزع ذكر ذلك ابن الجوزي ، ومن ذلك قول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : { إن أبا سفيان رجل [ ص: 247 ] شحيح } ، وقول الحضرمي أو الكندي للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال : { لك يمينه فقال يا رسول الله : إنه رجل فاجر لا يبالي } قال في شرح مسلم : وفيه أن أحد الخصمين إذا قال لصاحبه : إنه ظالم ، أو فاجر أو نحوه يحتمل ذلك منه ، وما قاله ظاهر ، وظاهر كلام أصحابنا وغيرهم يؤاخذ بذلك ويتأول الخبر .

وروى أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن الشريد مرفوعا { لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته } قال أحمد : قال وكيع عرضه شكايته وعقوبته حبسه ، ولعل من هذا ما جرى بين العباس وعلي لما تحاكما في ذلك إلى عمر فكان كل منهما متأولا معذورا في قوله للآخر ، فإنه أشكل على جماعة حتى أسقطه بعضهم من الحديث ، وهو في الصحيحين ولذلك لم ينكر عمر وعثمان وسعد والزبير وعبد الرحمن ما قيل ، لكن كان القول في الوجه .

وقد تقدم كلام الإمام أحمد في الاستعانة بالجيران وغيرهم على إزالة المنكر ، وفي الخبر الصحيح المشهور { خير دور الأنصار بنو فلان } الحديث قال في شرح مسلم : فيه جواز تفضيل القبائل والأشخاص بغير مجازفة ولا هوى ولا يكون هذا غيبة . وهذا صحيح وهو كثير في كلام أحمد وغيره من الأئمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية