غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل يشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة ؟ .

ولو كان ذا فسق وجهل وفي سوى الذي قيل فرض بالكفاية فاحدد ( و لو كان ) ذلك الشخص الآمر والناهي ( ذا ) أي صاحب ( فسق ) بأن فعل كبيرة ولم يتب منها أو أصر على صغيرة ، إذ ليس من شرط الأمر [ ص: 216 ] بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون فاعله عدلا في المعتمد ، بل الإمام والحاكم والعالم والجاهل والعدل والفاسق في ذلك سواء كما في الآداب الكبرى . وإنما أشار الناظم بلو المفيدة للخلاف خلافا لقوم اعتبروا في الآمر والناهي العدالة . قال في الآداب الكبرى : قال قوم : لا يجوز لفاسق الإنكار . وقال آخرون : لا يجوز إلا لمن أذن له ولي الأمر . انتهى .

والصحيح عدم اعتبارهما .

وقال الإمام ابن الجوزي : الكافر ممنوع من إنكار المنكر لما فيه من السلطنة والعز .

وقال ابن مفلح : وللمميز الإنكار ويثاب عليه ولا يجب .

نعم ينبغي أن لا يخالف قوله فعله ، بل يأمر بالمعروف ويأتمر به ، وينهى عن المنكر وينزجر عنه . فقد أخرج البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه } .

وفي رواية لمسلم قال قيل لأسامة لو أتيت عثمان فكلمته ، فقال إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أن أسمعكم ، وأني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه ، ولا أقول لرجل إن كان علي أميرا أنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل وما هو قال سمعته يقول { يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه } . وإني سمعته يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول { ليلة أسري بي مررت بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون } قال [ ص: 217 ] الحافظ المنذري : الأقتاب الأمعاء واحدها قتب بكسر القاف وسكون التاء وتندلق أي تخرج .

وروى الطبراني بإسناد حسن عن جندب بن عبد الله الأزدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه } ورواه البزار من حديث أبي برزة إلا أنه قال { مثل الفتيلة } .

وروى الطبراني في الكبير والبزار عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان } .

وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه } .

وأنشد الإمام ابن مفلح في فروعه لبعضهم :

    عجبت لمن يبكي على موت غيره
دموعا ولا يبكي على موته دما     وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره
عظيما وفي عينيه عن عيبه عمى

وأنشد في الآداب الكبرى لأبي العتاهية في ابن السماك الواعظ :

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما     إذ عبت منهم أمورا أنت آتيها
كالملبس الثوب من عري وعورته     للناس بادية من أن يواريها
وأعظم الإثم بعد الشرك تعلمه     في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها     منهم ولا تبصر العيب الذي فيها

وذكر الإمام الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف قال : كان يحيى بن معاذ ينشد في مجلسه :

مواعظ الواعظ لن تقبلا     حتى تعيها نفسه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ     خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه     وبارز الرحمن لما خلا

[ ص: 218 ] وأنشد لأبي العتاهية قوله :

وبخت غيرك بالعمى فأفدته     بصرا وأنت محسن لعماكا
وفتيلة المصباح تحرق نفسها     وتضيء للأعشى وأنت كذاكا

وذكر أن في بعض الكتب القديمة السالفة : إذا أردت أن تعظ الناس فعظ نفسك ، فإن اتعظت وإلا فاستح مني ، ثم أنشد :

وغير تقي يأمر الناس بالتقى     طبيب يداوي الناس وهو سقيم

وأنشد أيضا :

يا أيها الرجل المقوم غيره     هلا لنفسك كان ذا التقويم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى     بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم

ولما جلس عبد الواحد بن زيد الواعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته :

يا واعظا قام لاحتساب     يزجر قومه عن الذنوب
تنهى وأنت المريب حقا     هذا سن المنكر العجيب
لو كنت أصلحت قبل هذا     عيبك أو تبت من قريب
كان لما قلت يا حبيبي     موقع صدق من القلوب
تنهى عن الغي والتمادي     وأنت في النهي كالمريب

قال في اللطائف : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فقال إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك ، ثم تلا { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } وقال تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } وقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } .

فإن قلت : هذه الأخبار الصحيحة أو الآثار الصريحة تعين اعتبار عدالة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر .

فالجواب أن هذا هو الأكمل والأفضل . ونحن نقول يجب على كل مؤمن أن يكون تقيا عدلا ، ولكن فلا بد للناس من الأمر بالمعروف والنهي عن [ ص: 219 ] المنكر . ولو لم يعظ الناس إلا معصوم أو محفوظ لتعطل الأمر والنهي مع كونه دعامة الدين ، وقد قيل :

إذا لم يعظ الناس من هو مذنب     فمن يعظ العاصين بعد محمد

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { مروا الناس بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تتناهوا عنه كله } .

وقيل للحسن البصري : إن فلانا لا يعظ ويقول أخاف أن أقول ما لا أفعل . فقال الحسن : وأينا يفعل ما يقول ؟ ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر .

والحاصل أنه يجب على كل مؤمن مع الشروط المتقدمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو فاسقا أو بغير إذن ولي أمر حتى على جلسائه وشركائه في المعصية وعلى نفسه فينكر عليها ، لأن الناس مكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وسنذكر طرفا صالحا من الأحاديث الواردة في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى والله أعلم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية