غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في زجر الذمي إذا جهر بالمنكرات .

وإن جهر الذمي بالمنكرات في الشريعة يزجر دون مخف بمركد ( وإن جهر ) أي أظهر وأبان غير مستتر . قال في القاموس : جهر كمنع علن ، والكلام وبه أعلن كأجهر ، والصوت أعلاه . وقوله تعالى { أرنا الله جهرة } أي عيانا غير مستتر ( الذمي ) فاعل جهر ونسبته إلى الذمة بمعنى العهد والأمان وتفسر الذمة بالضمان أيضا . ومنه قولهم في ذمتي أي ضماني ، والجمع ذمم ، وهم من جوزنا عقد الذمة لهم من اليهود والنصارى والمجوس [ ص: 238 ] لأن لهم شبهة كتاب ، والسامرة من اليهود والإفرنج فرقة من النصارى ( بالمنكرات ) من المحرمات ( في الشريعة ) المطهرة وأل فيها للعهد الذهني ، أي في شريعتنا التي شرعها الله سبحانه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وجمعها شرائع ( يزجر ) أي يمنع ، يقال زجرته من باب قتل منعته فانزجر وازدجر ازدجارا والأصل ازتجر على افتعال يستعمل لازما ومتعديا .

وتزاجروا عن المنكر منع بعضهم بعضا . وزجره أي حثه وحمله على السرعة . وفهم منه أنه إذا لم يجهر بالمنكرات في شريعتنا بل أخفاها وسترها أنه لا يزجر ، وقد صرح بهذا المفهوم بقوله ( دون ) أي غير .

ومن إتيان دون بمعنى غير قوله صلى الله عليه وسلم { ليس فيما دون خمس أواق صدقة } أي في غير خمس أواق كما في القاموس ، وتكون دون بمعنى سوى أي سوى ( مخف ) اسم فاعل من أخفى يخفي فهو مخف فإن لم يجهر الذمي بفعل المنكرات أو قولها بأن فعلها ( بمركد ) أي بموضع سكون يعني في نحو بيته . يقال ركد الماء ركودا من باب قعد سكن . قال في القاموس : الركود السكون والثبات . فمعنى مركد مسكن .

قال في الآداب الكبرى : إذا فعل أهل الذمة أمرا محرما عندهم غير محرم عندنا لم نعرض لهم وندعهم وفعلهم سواء أسروه أو أظهروه ، وهذا يفهم من النظم ، فإنه حصر الزجر في فعل محرم في الشريعة الغراء بقيد الظهور ، ويبقى إذا فعلوا محرما عندهم دون شريعتنا ولو ظاهرا أو في شريعتنا وكان خفية ، سواء كانوا يعتقدون حرمته أو لا . وأما إذا فعلوا محرما في شرعنا مجاهرين به وجب إنكاره ، سواء اعتقدوا حله أو لا .

وأما إذا فعلوا ما يعتقدون حرمته وهو في شرعنا غير محرم لم ننكر عليهم ولو ظاهرا ، لأن الله سبحانه وتعالى منعنا من قتالهم والتعرض لهم إذا التزموا الجزية والصغار ، وهو جريان أحكام المسلمين . وأيضا فالقصد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة أمر الإسلام وهو حاصل ، لا أمر دينهم المبدل المغير . وأما إن فعلوا أمرا محرما عندنا فما فيه ضرر أو غضاضة على المسلمين يمنعون منه . ويدخل فيه نكاح مسلمة يعني إصابتها باسم النكاح [ ص: 239 ] وينتقض عهده بذلك . ولعل هذا يجب البحث عنه حيث بلغه أن في المحل الفلاني تزوج نصراني بمسلمة .

وقد وقع في حدود اثنين وأربعين ومائة وألف أن رجلا من إخواننا ذكر لي قصة على سبيل المذاكرة ، فإذا فيها أن رجلا كان نصرانيا فأسلم ، والحال أن له بنية دون البلوغ ، فلما بلغت البنت تزوجها نصراني ظنا منهم أنها لم يحكم بإسلامها تبعا ، وذلك أن الرجل قال لي كنت في البلد الفلانية فإذا بفلان النصراني متزوج بابنة فلان الذي أسلم وهي صغيرة جدا وزوجها كبير . فتعجبت كيف قعدت له . فتثبت في القضية فإذا هي جلية ، فركبت لبعض ولاة أمور الدين وركبت عدة خيالة من أتباعه في طلب أبي البنت وزوجها والخوري والبنت ، فهرب الزوج والخوري وأتى الأب معتذرا .

فحرجت عليه أن لا يمكن الخبيث من ابنته وإلا أجريت عليه وعليها ما يستحقانه .

فذهب الزوج على وجهه ، ثم قصد بعض شيوخ الإسلام فكتب له ورقة تتضمن الرفق به ، وأن هذا يسامح بمثله لكون النصراني أنهى للشيخ غير الواقع ، فلم أنظر إلى ذلك وصممت على أن الرجل لا بد له من أحد أمرين إما الإسلام وإما القتل . ففر ومكث مدة فضاقت عليه الأرض بما رحبت فما شعرت إلا والرجل أتاني مسلما ، فأعاد النكاح وخرج من عامه لحج بيت الله الحرام وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام . والله تعالى أعلم .

وما أظهروه من المحرمات في شرعنا تعين إنكاره عليهم ، فإن كان خمرا جازت إراقته ، وإن أظهروا صليبا أو طنبورا جاز كسره . وإن أظهروا كفرهم أدبوا على ذلك . ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين كما في المغني وابن رزين ، ويمنعون مما تتأذى به المسلمون كإظهار المنكر من الخمر والخنزير والأعياد والصلبان والناقوس ، وكذا من إظهار بيع مأكول في نهار رمضان كالشواء .

وكذا إذا تبايعوا بالربا في سوقنا منعوا لأنه عائد بفساد نقدنا . قاله القاضي . فظاهره عدم المنع في غير سوقنا . واستظهر في الآداب منعهم مطلقا لأنهم كالمسلمين في تحريم الربا عليهم . [ ص: 240 ] وقال شيخ الإسلام : يمنعون من الأكل والشرب في نهار رمضان . بين أظهر المسلمين ، لأن هذا من المنكرات ، كما ينهون عن شرب الخمر وأكل الخنزير وإن تركوا التمييز عن المسلمين في أحد أربعة أشياء : لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم ألزموا به ، نعم لا يمنعون من نكاح محارمهم بشرطين :

( الأول ) : أن يعتقدوا حل ذلك .

( الثاني ) : أن لا يرتفعوا إلينا ، وإن لم يعتقدوا حله منعوا منه لأنه ليس من دينهم فلا يقرون عليه كالزنا والسرقة لأن تحريمه عندنا مع اعتقادهم تحريمه يصيره منكرا فيتناوله أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولأنهم التزموا الصغار وهو جريان أحكام المسلمين عليهم إلا فيما اعتقدوا إباحته ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية