غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما كان الستر مطلوبا وفاعله من أهل الإحسان محسوبا ، كان عدم التجسس على ذلك أولى أحرى . كما أخبر به الذي هو أعلم وأدرى . ولذا قال الناظم رحمه الله تعالى : [ ص: 262 ] مطلب : في بيان التجسس والنهي عنه : ويحرم تجسيس على متستر بفسق وماضي الفسق إن لم يجدد ( ويحرم ) على كل مسلم مكلف ( تجسيس ) بالجيم هو البحث عن عيوب الناس .

وأما بالحاء المهملة فهو البحث عن طلب الخبر . قال تعالى { ولا تجسسوا } بحذف إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها . وقال في سورة يوسف { فتحسسوا } بالحاء المهملة { من يوسف وأخيه } أي اطلبوا خبرهما . فتتبع أخبار الناس منهي عنه سواء كان في البحث من عيوبهم أو ليطلع على أخبارهم .

أما في الأول فلئلا يظهر على عورات الناس . وتأمل العيب معيب وكذا تتبعه والبحث عنه . وأما في الثاني فلئلا يقع في حد لقوله صلى الله عليه وسلم { فلا تجسسوا ولا تحسسوا } وقيل بالمهملة لاستماع حديث القوم وأصله من الحس لأنه يتتبعه بحسه ، وقيل هما سواء .

وقرأ الحسن ( ولا تحسسوا ) بالحاء ، قاله البغوي في شرح السنة . ويستثنى من عموم ذلك البحث عن أحوال الرواة والشهود والأمناء على الأوقاف والصدقات والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم ، فإن هذا من النصيحة الواجبة وتقدم .

( على متستر ) متعلق بتجسيس بخلاف المعلن فإنه لا يحرم التجسس عليه ولا غيبته لأنه قد ألقى جلباب الحياء عن وجهه ( ب ) عمل أو قول يؤدي إلى ( فسق ) من شرب خمر وزنا ولواط ونحوها .

ذكر المهدي في تفسيره أنه لا ينبغي لأحد أن يتجسس على أحد من المسلمين . قال فإن اطلع منه على ريبة وجب أن يسترها ويعظه مع ذلك ويخوفه بالله تعالى .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عز وجل فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه عز وجل ويصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه } وفي بعض النسخ " معافاة " يعود إلى الأمة .

وفي [ ص: 263 ] بعض النسخ . وإن المجاهرة " وفي بعضها " وإن من الجهار يقال جهر بأمر كذا وأجهر وجاهر .

( و ) يحرم تجسيس على ( ماضي الفسق ) أي ما يفسق به في الزمن الماضي أو الفسق الماضي مثل أن يشرب الخمر في الزمن الذي مضى وتبحث عنه أنت بعد مدة لأن ذلك إشاعة للمنكر بما لا فائدة فيه ولا عود على الإسلام وإنما هو عيب ونقص فينبغي كفه ونسيانه دون إذاعته وإعلانه ، وإنما يحرم التجسس عن ذلك ( إن لم يجدد ) العود عليه والإتيان به ثانيا . فإن عاوده فلا حرمة إذن .

قال في الرعاية : ويحرم التعرض لمنكر فعل خفية على الأشهر أو ماض أو بعيد وقيل يجهل فاعله ومحله . وقال أيضا : لا إنكار فيما مضى وفات إلا في العقائد أو الآراء . انتهى .

وهذا يفهم من كلام الناظم ، لأن العقائد مما يجدد في كل زمان ومكان .

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن ماجه مرفوعا { من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة . ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته } . قال الحجاوي رحمه الله تعالى : والمستتر هو الذي يفعله في موضع لا يعلم به غالبا غير من حضره ، ويكتمه ولا يحدث به .

وأما من فعله في موضع يعلم به جيرانه ولو في داره فإن هذا معلن مجاهر غير مستتر ، قال الإمام ابن الجوزي : من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان ، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي ، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار . انتهى .

قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية : واعلم أن الناس على ضربين ، أحدهما من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي ، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز كشفها وهتكها ولا التحدث بها ، لأن ذلك غيبة ، وفي ذلك قال الله تعالى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة } والمراد [ ص: 264 ] إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه أو اتهم به وهو بريء منه كما في قصة الإفك .

قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف : اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام ، وأولى الأمور ستر العيوب .

وفي مثله جاء الحديث { أقيلوا ذوي العثرات عثراتهم } رواه أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها .

والثاني : من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له ، فهذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة ، ومثل هذا فلا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود وصرح بذلك بعض أصحابنا . انتهى .

وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري وغيره وهو داخل في التجسس المنهي عنه ، وقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه : إن فلانا تقطر لحيته خمرا ، فقال نهانا الله عن التجسس .

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب الأحكام السلطانية : إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستمرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل جاز التجسس عليه والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم ، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه .

وقال ابن الجوزي : لا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره يستمع صوت الأوتار ، ولا يتعرض للشم ليدرك رائحة الخمر ، ولا أن يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار ، ولا أن يستخبر جيرانه ليخبر بما جرى ، بل لو أخبره عدلان ابتداء أن فلانا يشرب الخمر فله إذ ذاك أن يدخل وينكر .

ومر من كلامه أنه متى سمع أنكر ، وقد نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه . قال محمد بن أبي الحارث : سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال يأمره فإن لم يقبل يجمع عليه الجيران ويهول عليه . وفيمن سمع صوت المغني في الطريق قال : هذا قد ظهر ، عليه أن ينهاهم .

[ ص: 265 ] قال بعض السلف في الكف عن البحث عن عيوب الناس : أدركنا قوما لم تكن لهم عيوب ، فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبا ; وأدركنا أقواما كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم .

وشاهد هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي بردة رضي الله عنه مرفوعا . { يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا الناس ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته } ، وتقدم .

وأنشد بعضهم في ذلك :

    لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا     واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
ولا تعب أحدا منهم بما فيكا     واستغن بالله عن كل فإن به
غنى لكل وثق بالله يكفيكا

( تنبيهان ) :

( الأول ) : قد هجر السلف رضوان الله عليهم جماعة بأدون مما ذكرنا ، فقد روى الخلال عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رأى رجلا يضحك مع جنازة فقال تضحك مع الجنازة لا أكلمك أبدا .

وبإسناده عن الحسن البصري قال كان لأنس بن مالك رضي الله عنه امرأة في خلقها سوء ، فكان يهجرها السنة والأشهر ، فتتعلق بثوبه فتقول أنشدك بالله ياابن مالك ، أنشدك بالله يا ابن مالك ، فما يكلمها .

وبإسناده عن حذيفة أنه قال لرجل جعل في عضده خيطا من الحمى : لو مت وهذا عليك لم أصل عليك .

وعن الحسن أنه قيل له : إن ابنك أكل طعاما حتى كاد أن يقتله ، قال : لو مات ما صليت عليه

وذكر الجلال السيوطي في مقاماته المسماة ( الزجر بالهجر ) قال أخرج الطبراني عن بشير بن عمرو ، كان قد { رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : أصرم الأحمق فليس للأحمق شيء خير من الهجران } . ورواه البيهقي موقوفا على بشير بن عمرو . وروى مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه { أصرم الأحمق } قال الحاكم : بشير بن زيد الأنصاري فيه ومسانيده عزيزة .

[ ص: 266 ] وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير { أن قريبا لعبد الله بن معقل خذف فنهاه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكي عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين . قال فعاد فقال أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم عدت تحذف لا أكلمك أبدا } . قال النووي في شرح مسلم : في هذا الحديث هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة ، وأنه يجوز هجرانه دائما .

والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وقد ذكر الله تعالى في كتابه الهجر الجميل في قوله { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } والصبر الجميل في قوله { فصبر جميل } والصفح الجميل في قوله { فاصفح الصفح الجميل } فالهجر الجميل هو الذي لا أذى معه .

والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه . والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه . وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول : مصارمة جميلة أحب إلي من مودة على دخل . وقال ابن عبد البر : رب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية . قال الشاعر :

إذا ما تقضى الود إلا مكاثرا     فهجر جميل عند ذلك صالح



التالي السابق


الخدمات العلمية