غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وأما هجران أهل البدع والضلال فقد أشار إليه في نظمه فقال : مطلب : في هجر من يدعو لأمر مضل : وهجران من يدعو لأمر مضل أو مفسق احتمه بغير تردد ( وهجران من ) أي إنسان من أهل العلم أو غيرهم ( يدعو ) الناس جهرة أو خفية ( ل ) إجابة ( أمر ) من الدين من الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات الفاسدة ( مضل ) تائه حائد عن النهج القويم ، والصراط المستقيم مما كان عليه النبي الكريم ، والرسول العظيم ، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، أو الصحابة أهل التقوى والإصابة ، الذين هم خير عصابة ، أو التابعين لهم بإحسان ، أو القرن الثالث الذي نطق بفضله سيد الأكوان ، في قوله { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم } فهؤلاء القرون الثلاثة أهل السنة والوراثة ، لا ما نهجته الجهمية وأضرابهم من الفرق الضالة والطوائف المائلة الزالة ، فهؤلاء حتم هجرانهم ، ولا ترع شأنهم .

[ ص: 268 ] قال الإمام أحمد رضي الله عنه : ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة ، وهو معنى قول الناظم ( أو ) يدعو لأمر ( مفسق ) بأن كانت بدعته مفسقة لا مكفرة . وأما إذا كانت مكفرة فبالأولى وقد شمله قوله لأمر مضل ، لأن الضلال يشمل الكفر والفسق ، وعطفه من عطف ( العام على الخاص ) ونكتة ذلك أن الداعي إلى البدعة المفسقة ربما يتوهم عدم وجوب هجره كما له كان فاسقا فإنه لا يجب هجره بل يسن ، لكن لما كان داعية إلى البدعة المفسقة ( احتمه ) أي الهجران بغير ( تردد ) منك ولا شك لارتكابه البدع ، وخلال السوء التي عليها انطبع . فيجب على كل مسلم سليم الفؤاد ، من شعب البدع والعناد ، أن يصرم أهل البدع والإلحاد ، من غير شك ولا ترداد . فهجران الداعي إلى البدع واجب .


    على غير من يقوى على دحض قوله
ويدفع إضرار المضل بمذود

( على ) كل مسلم ممتثل للسنة وللبدعة مجانب ( غير من ) أي إنسان مسلم ( يقوى ) لنفوذ كلمته أو علو همته أو كثرة عشيرته ( على دحض ) أي دفع ورد وإبطال قوله ، أي قول من يدعو للضلالة والبدع والجهالة .

قال الإمام أحمد رضي الله عنه : ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به والتأذي دون غيره .

فظاهره أنه متى كان يقدر على الرد عليه لا يجب هجره بل عليه رد قوله كما في كلام الناظم فيرده ( ويدفع ) بالبراهين الظاهرة والحجج الباهرة شبهته إن كان له شبهة أو بسيف الشرع ( إضرار المضل ) للناس الداعي لهم للهلكة واليأس ( بمذود ) قال في القاموس : المذود كمنبر اللسان . وأصل الذود السوق والطرد والدفع كالذياد وهو ذائد .

وقال ابن مفلح في آدابه : وقيل يجب هجره مطلقا وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ، وقطع ابن عقيل به في معتقده قال ليكون ذلك كسرا له واستصلاحا وقال أيضا يعني ابن عقيل : إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان ، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ، ولا ضجيجهم ب ( لبيك ) ، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة . عاش [ ص: 269 ] ابن الراوندي والمري - عليهما ما يستحقان - ينظمان وينثران هذا يقول حديث خرافة . والمعري يقول :

تلوا باطلا وجلوا صارما     وقالوا صدقنا فقلنا نعم

يعني بالباطل كتاب الله عز وجل ، وعظمت قبورهم واشتريت تصانيفهم ، وهذا يدل على برودة الدين في القلب ، وهذا المعنى قاله أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه .

والحاصل أنه يجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة وهم أهل الأهواء والبدع المخالفون فيما لا يسوغ فيه الخلاف ، كالقائلين بخلق القرآن ، ونفي القدر ، ونفي رؤية الباري في الجنة والمشبهة والمجسمة ، والمرجئة الذين يعتقدون أن الإيمان قول بلا عمل ، والجهمية والإباضية والحرورية والواقفية ، واللفظية ، والرافضة ، والخوارج ، وأمثالهم لأنهم لا يخلون من كفر أو فسق . قاله في المستوعب .

قال الخلال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري إن أبا عبد الله رضي الله عنه سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه ، قال لا وإذا سلم عليه لا يرد عليه . وقال ابن حامد : يجب على الخامل ومن لا يحتاج إلى خلطتهم ، ولا يلزم من يحتاج إلى خلطتهم لنفع المسلمين وهو مراد الناظم بقوله : ويقضي أمور الناس في إتيانه ولا هجر مع تسليمه المتعود ( ويقضي ) أي ينفذ ( أمور ) جمع أمر والمراد به حوادث وشئون ومصالح ( الناس ) الذين لا يقدرون على قضاء حوائج أنفسهم ( في إتيانه ) أي إتيان هذا المخالط لهؤلاء وغشيانه لأبوابهم وجلوسه في أنديتهم ، فهذا لا يجب عليه هجرهم : فتخلص من مجموع كلامالناظم والأصحاب رضوان الله عليه أن من عجز عن الرد أو خاف الاغترار والتأذي وجب عليه الهجر ، وأن من قدر على الرد أو كان ممن يحتاج إلى مخالطتهم لنفع المسلمين وقضاء حوائجهم ونحو ذلك من المصالح لم يجب عليه الهجر ، لأن من يرد عليهم ويناظرهم يحتاج إلى مشافهتهم ومخالطتهم لأجل ذلك ، وكذا من في معناه بخلاف غيره .

وقال ابن تميم : وهجران أهل البدع كافرهم وفاسقهم ، والمتظاهر بالمعاصي ، وترك السلام عليهم فرض كفاية ، ومكروه لسائر الناس . [ ص: 270 ] ولا ) يتأتى ( هجر ) ولا يتصور من شخص ( مع تسليمه ) أي تسليم الهاجر على المبتدع ( المتعود ) أي المعتاد بل عليه أن يصرم كلامه ويترك سلامه فلا يبدأه بالسلام ، وإن بدأه المبتدع لا يرد عليه ولا احتشام ، فإن اتباع السنة أولى ، وامتثال الشريعة أحق وأعلى . فإن سلم عليه لم يكن له هاجرا ، ولا عن مودته وصحبته نافرا .

قال الإمام أحمد رضي الله عنه : إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم } .

( تتمة ) قال القاضي : لا يجوز الهجرة بخبر الواحد بما يوجب الهجرة ، نص عليه لحديث { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ بالقرف ولا يصدق أحدا على أحد } والقرف التهمة ، يقال قرفته بكذا إذا أضفته إليه وعبته واتهمته ، وقال ابن عبد البر : قال معاذ بن جبل : إذا كان لك أخ في الله تعالى فلا تماره ولا تسمع فيه من أحد فربما قال لك ما ليس فيه فحال بينك وبينه ، وقد قيل في ذلك :

إن الوشاة كثير إن أطعتهم     لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما

الإل اختلف فيه ، واستشهد ابن الجوزي بهذا البيت على أنه القرابة . وقيل أيضا :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم     بسر ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة . وقال كثير عزة :

لعم أبي الواشين لا عم غيرهم     لقد كلفوني خطة لا أريدها
ولا يلبث الواشون أن يصدعوا العصا     إذا هي لم يصلب على المرء عودها

وقال غيره :

يا ملزمي بذنوب ما أحطت بها     علما ولا خطرت يوما على فكري
صدقت في أباطيل الظنون وكم     كذبت فيك يقين السمع والبصر



التالي السابق


الخدمات العلمية