غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 271 ] ولما ذكر الناظم رحمه الله من يندب ويجب أعقب ذلك بذكر من لا يجوز هجره من المسلمين فقال :

مطلب : في حظر انتفاء التسليم فوق ثلاثة : وحظر انتفا التسليم فوق ثلاثة على غير من قلنا بهجر فأكد ( وحظر ) أي منع ، وهو منصوب على المفعولية بأكد .

والمراد بالحظر هنا الحرمة خلافا لظاهر كلام الإمام ابن عقيل . قال في الآداب الكبرى : فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقال ابن عقيل يكره . وكلام الأصحاب خلافه ولهذا قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : اقتصاره في الهجر على الكراهة ليس بجيد بل من الكبائر ، على نص الإمام أحمد إذ الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة .

وقد صح قوله عليه الصلاة والسلام فيمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار .

( انتفا التسليم ) إذا لقيه فيعرض عنه جانبا ولا يكون لأخوة الإسلام مراقبا ولا لخطة الشيطان مجانبا ( فوق ثلاثة ) من الأيام أي أزيد منها لما ذكرنا من الحديث . فظاهر كلام الناظم عدم الحظر في الثلاثة فما دون .

وظاهر كلام الأكثر هنا لا فرق بين ثلاثة أيام فأكثر . وكلامهم في النشوز يدل على هذا . وذلك لظاهر ما في الصحيحين من أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله عز وجل . المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره . التقوى ههنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات . بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه ، وفيهما ولا تنافسوا ، ولا تهاجروا ، ولا تقاطعوا . إن الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } .

فقوله . ولا تهاجروا " نهي عن الهجرة وقطع الكلام ، وفي رواية " ولا تهجروا " وهو بمعنى الأولى . وقيل يجوز أن يكون معنى ولا تهجروا أي لا تتكلموا بالهجر بضم الهاء وهو الكلام القبيح . [ ص: 272 ] وفي رواية للبخاري وأبي داود وغيرهما { ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث } .

ورواه الطبراني وزاد فيه { يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة } .

وأخرج الإمام مالك والبخاري ومسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } .

وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا { لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار } .

وفي رواية لأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث ، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه ، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر ، وإن لم يرد فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجرة } .

وفي حديث عائشة عند أبي داود { فإذا لقيه يسلم عليه ثلاث مرات كل ذلك لا يرد عليه فقد باء بإثمه } .

وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يحل لمسلم أن يهجر مسلما فوق ثلاث ليال ، فإنهما ناكبان أي مائلان عن الحق ، ما داما على صرامهما ، وأولهما فيئا يكون سبقه بالفيء كفارة له ، وإن سلم فلم يقبل ورد عليه سلامه ردت عليه الملائكة ورد على الآخر الشيطان ، فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا أبدا } .

وروى الطبراني بسند صحيح عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من هجر أخاه فوق ثلاث فهو في النار إلا أن يتداركه الله برحمته } .

وأخرج مالك ومسلم واللفظ له وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تعرض [ ص: 273 ] الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا } وفي رواية أنه يكرر ذلك ثلاثا يعني قوله اتركوا هذين حتى يصطلحا . الشحناء العداوة كأنه شحن قلبه بغضا أي ملأه .

وكلامه في المستوعب وغيره على أنه لا يحرم في الثلاثة أيام للأخبار التي ذكرناها .

وفي شرح مسلم قال العلماء رضي الله عنهم : وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك ، فعفي عنها في الثلاث ليزول ذلك العارض . وقيل إن الأخبار لا تدل على الهجر في الثلاث قال في شرح مسلم على مذهب من لا يحتج بالمفهوم : قال في الآداب : ويتوجه أو لأن الخبر في الهجر بعذر شرعي انتهى .

قلت : وقد ورد من المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يبطل التأويلين . فروى الطبراني ورواته ثقات إلا عبد الله عبد العزيز الليثني فوثقه مالك وسعيد بن منصور وقال البخاري منكر الحديث ، وضعفه النسائي وأبو حاتم ، وقال أبو زرعة ليس بالقوي ، وقال يحيى ليس بشيء فهو مختلف فيه كما ترى ، عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تدابروا ، ولا تقاطعوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، هجر المؤمنين ثلاثا فإن تكلما وإلا أعرض الله عز وجل عنهما حتى يتكلما } فإن هذا الحديث يبطل تأويل من لم يحتج بالمفهوم جزما ، وهي اتجاه صاحب الآداب لأن الأصل عدم العذر إلا أن يقوم عليه دليل والله الموفق .

وإنما يحرم الهجر وانتفاء التسليم فوق ثلاثة أيام ( على غير من ) أي مسلم قلنا ( ب ) جواز ( هجر ) هـ لارتكابه المعاصي وتجاهره بها ، فإنها تجره بالنواصي إلى جهنم ولهبها . أو قلنا بوجوب هجره لارتكابه البدع المكفرة أو المفسقة أو كونه داعيا إلى بدعة مضلة أو مفسقة كما بيناه سابقا .

وقول الناظم ( فأكد ) فعل أمر من التأكيد ، أي أكد حظر انتفاء التسليم فوق ثلاثة أيام بلياليها على غير من قلنا بجواز هجره أو وجوبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية