غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم إن الناظم رحمه الله تعالى نبه على بعض فوائد السلام فقال : وإفشاؤك التسليم يوجب محبة من الناس معروفا ومجهولا اقصد ( وإفشاؤك ) أي : نشرك وإذاعتك التسليم ، مصدر سلم تسليما وسلاما ( يوجب ) أي يلزم ويحقق ( محبة ) والموجبة الكبيرة من الحسنات أو السيئات التي توجب الجنة أو النار .

والمحبة أصلها الصفاء ; لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان . وقيل : مأخوذة من الحباب وهو ما يعلو الماء عند المطر الشديد ، فهي غليان القلب وثورانه عند الاهتياج إلى لقاء المحبوب . وقيل : مشتقة من اللزوم والثبات ، يقال أحب البعير إذا برك فلم يقم ، كقول الشاعر :

    خلت عليه بالفلاة ضربا
ضرب بعير السوء إذ أحبا

فكأن المحب قد لزم قلبه محبوبه فلم يرم عنه انتقالا . وقيل مأخوذة من القلق والاضطراب ، ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه . قال الشاعر : [ ص: 293 ]

تبيت الحبة التنضاض منه     مكان الحب يستمع السرارا

أراد بالحب القرط . وقيل مأخوذة من الحب جمع حبة وهو لباب الشيء وخالصه وأصله ، فإن الحب أصل النبات والشجر . وقيل مأخوذة من الحب ، وهو الإناء الواسع المعروف يوضع فيه الشيء فيمتلئ بحيث لا يسع غيره ، وكذالك قلب المحب لا يسع غير محبوبه . وقيل من الحب ، وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع عليها من جرة وغيرها فسمي الحب بذلك ; لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها . وقيل مأخوذة من حبة القلب وهي سويداؤه ، ويقال ثمرته ، سميت بذلك لوصولها إلى حبة القلب ، وفيها لغتان : حب وأحب .

واختلفوا في حد المحبة على أقوال كثيرة ، فقيل هي الميل الدائم ، بالقلب الهائم .

وقيل إيثار المحبوب ، على كل مصحوب .

وقيل موافقة الحبيب في المشهد والمغيب .

وقيل إقامة الخدمة ، مع القيام بالحرمة ، إلى غير ذلك من الأقوال .

وقد قدمنا أن شأن المحبة عظيم ومدار حركات العالم العلوي والسفلي عليها .

وقد نبه الناظم رحمه الله تعالى أن السلام من موجباتها .

وتقدم حديث أبي هريرة مرفوعا { والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم } .

وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا { ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين } وقال الشاعر :

قد يمكث الناس دهرا ليس بينهمو     ود فيزرعه التسليم واللطف

وقول الناظم ( من الناس ) متعلق ب { يوجب محبة } يعني يوقعها ويغرسها في قلوبهم للخبر .

وقوله رحمه الله ( معروفا ) مفعول مقدم ( ومجهولا ) معطوف عليه وقوله ( اقصد ) فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للقافية ، أي اقصد بسلامك كل إنسان سواء كان معروفا لك أو مجهولا عندك لا تعرفه .

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم { وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف } .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن من التواضع أن تسلم على من لقيت .

[ ص: 294 ] قال في الآداب الكبرى : ولعل المراد من السلام على من عرف ومن لم يعرف أنه يكثر منه ويفشيه ويشيعه ، لا أنه يسلم على كل من رآه ، فإن هذا في السوق ونحوه يستهجن عادة وعرفا .

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بمثل هذه المحافظة والمواظبة عليه لشاع وتواتر ونقله الجم الغفير خلفا من سلف . انتهى .

كذا قال .

وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يغدو إلى السوق فلا يمر بأحد إلا سلم عليه ، فقال له الطفيل بن أبي كعب ما تصنع في السوق ، وأنت لا تقف على البيع ، ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق ؟ فقال يا أبا بطن - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدوا من أجل السلام نسلم على من لقينا . رواه مالك في الموطأ .

لكن مراد الشيخ رضي الله عنه أن السلام على كل فرد من مجامع الناس كالأسواق والمواسم والحجيج ونحوها مستهجن عرفا وعادة وهو كذلك .

ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر في شرح البخاري عن الماوردي من الشافعية أن من مشى في الشوارع المطروقة كالسوق أنه لا يسلم إلا على البعض ; لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن المهم الذي خرج لأجله ، ولخرج به عن العرف .

قال الحافظ : ولا يعكر على هذا ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وذكر خبر ابن عمر قال : لأن مراد الماوردي من خرج في حاجة له فتشاغل عنها بما ذكر ، والأثر المذكور ظاهر بأنه خرج لقصد تحصيل ثواب السلام انتهى . والله الموفق .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا { من أشراط الساعة السلام للمعرفة } ذكره ابن بطال في شرح البخاري .

التالي السابق


الخدمات العلمية