غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما ذكر الناظم رحمه الله السلام والاستئذان وأحكامهما ذكر أشياء تتعلق بذلك ، فمنها القيام ، وبدأ به فقال :

مطلب : فيمن يجوز القيام له ومن يكره : وكل قيام لا لوال وعالم ووالده أو سيد كرهه امهد ( وكل قيام ) قامه الإنسان مكروه للنهي عنه في عدة أخبار سنذكر منها ما يليق بهذا الشرح ( لا ) يكره القيام مطلقا بل يباح ( لوال ) الأمر .

وظاهر إطلاق نظامه ولو غير عادل ، وأطلقه جماعة ; لأنه نائب عن الشريعة وقائم بالسياسة فيقام له إكراما لمنزلته . وقيل لا بد من كونه عادلا .

وقال ابن تميم : لا يستحب إلا للإمام العادل ( و ) لا يكره القيام أيضا ل ( عالم ) ; لأنه الحامل لكتاب الله الناقل لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على الله وأحكامه ، المبين لحلال الشيء وحرامه ، المنبه على عظمته وآياته .

وفي الحديث { علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل } أي في حفظ الحدود والشريعة . وكونهم لامتثال الأوامر واجتناب النواهي أقوى ذريعة . ( و ) لا يكره القيام أيضا ( لوالده ) أي القائم ; لأنه السبب في وجوده ، والباذل في تربيته وحفظ حياته غاية مجهوده .

فالقيام للوالدين من إظهار البر والإجلال ، والانخفاض والامتثال ، وهو من جملة ودهما ، وما عساه أن يفعل في جنب كدهما ، وقد ربياه صغيرا ، وأسهرا أعينهما سهرا كثيرا . وقد قرن الله بشكره شكرهما لعظيم حقهما عليه ، وأمره أن يخفض لهما جناح الذل لكبر طاعتهما لديه .

وسيأتي ذلك إن شاء الله مفصلا بأدلته الكثيرة المنيرة ، عند قول الناظم وإن عقوق الوالدين كبيرة . ( أو ) أي لا يكره القيام أيضا ل ( سيد ) قوم لقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 320 ] { قوموا إلى سيدكم } وهذا في الصحيحين وذلك { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة أرسل إليه فجاء راكبا على حمار وكان مجروحا فقال قوموا إلى سيدكم } وفي البخاري قال للأنصار { قوموا إلى سيدكم } واعترض بأن هذا أمر بالقيام إليه لا له .

والقيام إليه لأجل تلقيه لضعفه بالجراحة . ويؤيده ما عند الإمام أحمد { قوموا إلى سيدكم فأنزلوه } لكن ينصر كون الأمر بالقيام له آخر الخبر ، وكان رجال من بني الأشهل يقولون قمنا له على أرجلنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في السيرة الشامية .

ويحتمل أن الناظم أراد بالسيد الشريف القرشي ونحوه من ذوي الأنساب وهو ظاهر ما نقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه . قال عبد الله : رأيت أبي إذا جاء الشيخ أو الحدث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم فيكونوا هم يتقدمونه ثم يخرج من بعدهم .

وقال ابن تميم : لا يستحب القيام إلا للإمام العادل والوالدين والورع والكرم والنسب ، وهو معنى كلامه في المجرد والفصول ، وكذلك ذكر سيدنا الشيخ عبد القادر أغدق الله الرحمة على ضريحه .

والحاصل أن في القيام ثلاث روايات ، إحداها لا يقام إلا للوالدين ; لأن الإمام قال في رواية حنبل : لا يقوم أحد لأحد إلا الولد لوالده أو أمه ، أما غير الوالدين فلا . نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

( الثانية ) : يكره القيام إلا لقادم من سفر ; لأنه قال في رواية مثنى : لا يقوم أحد لأحد ، وأما إذا قدم من سفر فلا أعلم به بأسا إذا كان على التدين محبة في الله أرجو لحديث جعفر { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنقه وقبل بين عينيه } .

( الثالثة ) تؤخذ من نصوصه وهي موافقة لما قاله الأصحاب أن يقام للإمام ، وقيل العادل ، وأهل العلم والدين والورع والنسب والوالدين ، ولمن هو أسن منه ، وكريم قوم ، قال المروذي : كان أبو عبد الله من أشد الناس إكراما لإخوانه ، ومن هو أسن منه .

وجاء أبو إبراهيم الزهري أحمد بن سعد إلى الإمام أحمد فسلم عليه ، فلما رآه وثب إليه أو قام إليه قائما فأكرمه [ ص: 321 ] فلما أن مشى قال له ابنه عبد الله يا أبت أبو إبراهيم شاب وتعمل به هذا وتقوم إليه ؟ فقال له : يا بني لا تعارضني في مثل هذا ألا أقوم إلى ابن عبد الرحمن بن عوف ؟ ، { وقد قام طلحة رضي الله عنه لكعب بن مالك رضي الله عنه لما تاب الله عليه ، وكان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك } .

وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي أعلى الله مناره ، وأبقى على ممر الأيام آثاره : ترك القيام كان شعار السلف ، ثم صار ترك القيام كالأهوان بالشخص ، فينبغي أن يقام لمن يصلح .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضوان الله عليه في الفتاوى المصرية : ينبغي ترك القيام في اللقاء المتكرر والمعتاد ، ونحوه لكن إذا اعتاد الناس القيام وقدم من لا يرى كرامته إلا به فلا بأس به .

فالقيام دفعا للعداوة والفساد خير من تركه المفضي إلى الفساد . وينبغي مع هذا أن يسعى في الاصطلاح على متابعة السنة . وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام { ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا } وأخرجه الترمذي بلفظ { ويعرف شرف كبيرنا } .

وأخرج الإمام أحمد عن عبادة مرفوعا ( { ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه } . وقال صلى الله عليه وسلم { البركة مع أكابركم } رواه ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد .

ولأبي داود بإسناد جيد من حديث أبي موسى { إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وحامل القرآن غير المغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرام ذي السلطان المقسط } قال ابن حزم : اتفقوا على إيجاب توقير أهل القرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الخليفة والفاضل والعالم ، وما عدا من ذكرنا من الذين يقام لهم من السلطان والعالم والوالد والسيد ومن نبهنا عليهم من الكريم والحسيب والشائب ، فالقيام لغيرهم ( كرهه ) أي كراهته تنزيها ( امهد ) فعل أمر من مهد كمنع وحرك بالكسر للقافية . يقال مهده كمنعه ، وتمهيد الأمر تسويته وإصلاحه ، وتمهيد العذر بسطه وقبوله .

[ ص: 322 ] فيحتمل أن الناظم أراد اقبل كراهة القيام لغير من ذكر وهو الأظهر ، ويحتمل أنه أراد ابسط كراهة ذلك ووطئها وانشرها وهيئها . والله أعلم . فيكره القيام لأهل المعاصي والفجور .

والذي يقام له ينبغي أن يكره ذلك ظاهرا وباطنا ولا يطلبه ; لما أخرج أبو داود بإسناد صحيح والترمذي وحسنه عن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار } .

وأخرج أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه ، فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا } ولذا قال بعض علمائنا : النهي قد وقع على السرور بتلك الحال ، فإذا لم يسر بالقيام له وقاموا إليه فغير ممنوع .

وقال شيخ الإسلام أبو بكر والقاضي ومن تبعهما : فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم ، فاستحبوه لطائفة ، وكرهوه لأخرى . والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر .

وقال بعض الأصحاب وغيرهم في النهي عن ذلك إنما هو تحذير من الفتنة والعجب والخيلاء . مع أن ابن قتيبة قال : إنما معناه ما تفعله الأعاجم والأمراء في زماننا هذا أن يجلس ، والناس قيام بين يديه تكبرا وعجبا . ولذا قال ابن مسعود في من يمشي الناس خلفه إكراما : إنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع .

ورد الإمام المحقق ابن القيم في حاشية السنن على هذا القول بأن سياق حديث معاوية يدل على خلاف ذلك ، وإنما يدل على أنه كره القيام له لما خرج تعظيما ولأن هذا لا يقال له القيام للرجل وإنما هو القيام على رأس الرجل أو عند الرجل .

قال : والقيام ينقسم إلى ثلاث مراتب ، قيام على رأس الرجل ، وهو فعل الجبابرة ، وقيام إليه عند قدومه ولا بأس به ، وقيام له عند رؤيته ، وهو المتنازع فيه انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية