غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
وقد ورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس قال : إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود .

وقال أبو الوليد بن رشد إن القيام يقع على أربعة أوجه : [ ص: 323 ]

الأول : محظور ، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبرا وتعاظما على القائمين إليه .

والثاني : مكروه ، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين ، ولكن يخشى أن يدخل نفسه بسبب ذلك ما يحذر ، ولما فيه من التشبه بالجبابرة .

والثالث : جائز ، وهو أن يقع على سبيل الإكرام لمن لا يريد ذلك ويؤمن معه التشبه بالجبابرة .

والرابع : مندوب ، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحا بقدومه ليسلم عليه ، أو إلى من تجددت له نعمة فيهنيه أو مصيبة فيعزيه انتهى .

والحاصل من ذلك كله أن القيام لغير من ذكرنا مكروه .

والقاعدة زوال الكراهة بأدنى حاجة فكيف بالمصلحة الراجحة . وقد { قام النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة منهم سيدة نساء العالم فاطمة بضعته الشريفة عليها السلام } .

قالت سيدتنا وأمنا عائشة الصديقة رضوان الله عليها : { ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه } رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح .

{ ومنهم جعفر بن أبي طالب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه لما قدم من الحبشة فالتزمه ، وقبل ما بين عينيه رضوان الله عليه } .

وروى البيهقي عن واثلة بن الخطاب رضي الله عنه وهو صحابي سكن دمشق قال { دخل رجل المسجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فتحرك له النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : إن في المكان سعة ، فقال للمؤمن أو للمسلم حق } .

ومنهم عكرمة بن أبي جهل ، لما دخل عليه مسلما مهاجرا قام إليه فرحا بقدومه . رواه البيهقي من طريق الواقدي بسنده مرفوعا ، ورواه مالك عن الزهري مرسلا . ومنهم زيد بن حارثة رضي الله عنه . روى الترمذي وحسنه عن عائشة رضي الله عنها قالت { دخل زيد بن حارثة المدينة : ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 324 ] في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده ، فاعتنقه وقبله } . ومنهم عبد الله بن أم مكتوم .

قال الخطابي في باب الضرير يولى من كتاب الإمارة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم لابن أم مكتوم كلما أقبل ويقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز وجل } وذكره جماعة غير الخطابي من غير لفظ القيام .

وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المجلس يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل بيوت أزواجه } .

وعن جرير رضي الله عنه { أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له كساءه ثم أقبل على أصحابه فقال إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه } رواه البيهقي من أوجه كلها ضعيفة عندهم . وروى مرسلا عن الشعبي بإسناد صحيح إليه

. وروى أبو داود عن عمرو بن السائب أنه بلغه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبوه من الرضاعة فأجلسه على بعض ثوبه ، ثم أقبلت أمه فوضع شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلسه بين يديه } . مرسل جيد إلى غير ذلك من الأخبار والآثار .

ولذا قال أبو المعالي من أئمتنا : وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنة مستحبة . وكره أن يطمع في القيام له للحديث . وقال شيخ الإسلام : إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض فقيامهم لكتاب الله أحق .

التالي السابق


الخدمات العلمية