غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الرابع ) : تقدم كلام أبي الخطاب ونص الإمام في الاكتفاء في صلة الرحم بالسلام وعدمه . وقال شيخ مشايخنا البلباني في آدابه ما نصه : واعلم أن المراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم ، وتأكيد المبادرة إلى صلحهم عند عداوتهم ، والاجتهاد في إيصالهم كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم ، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم ، ومراعاة جبر خاطرهم مع التعطف والتلطف بهم ، وتقديمهم في إجابة دعواتهم ، والتواضع معهم في غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ، ومداومة مودتهم ونصحهم في كل شؤونهم ، والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم ، وإيثارهم في الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم ، لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة وفي معناها الهدية ونحوها .

ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض عساه أن يرجع عن بغضه إلى مودة [ ص: 356 ] قريبه ومحبته . وفي الحديث { الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنان صدقة وصلة } . انتهى .

واعلم أن هذا كله ليس بواجب بل أكثره مندوب كما يعلم . وفي النهاية قد تكرر في الحديث صلة الرحم ، وهي كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار ، والتعطف عليهم ، والرفق بهم ، والرعاية لأحوالهم ، وكذلك إن بعدوا وأساءوا . وقطع الرحم ضد ذلك كله . يقال وصل رحمه يصلها وصلا وصلة ، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة ، فكأنه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر . انتهى .

وفي الفتح قال القرطبي : الرحم التي توصل عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتواد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة . وأما الرحم الخاصة فتزيد النفقة على القريب ، وتفقد أحوالهم ، والتغافل عن زلاتهم ، وتتفاوت مراتب استحقاقهم في ذلك كما في الحديث والأقرب فالأقرب .

وقال ابن أبي حمزة : تكون صلة الرحم بالمال ، وبالعون على الحاجة ، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه ، وبالدعاء . والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة ، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة ، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد في وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا بأن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق ، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى . انتهى والله تعالى أعلم .

( الخامس ) : المراد بما ذكرنا مع الرحم الموافق في الدين . أما إذا كان الشخص مسلما وهم كفار فلا يوالهم ولا يوادهم لقوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الآية . ذكره البلباني ، وفيه نظر إلا أن حمل على عدم الوجوب . وفي حديث أسماء المتفق عليه ويأتي في بر الوالدين { جاءتني أمي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصلها قال نعم } .

[ ص: 357 ] وروى الإمام أحمد عن عامر بن عبد الله بن الزبير { أنه نزل فيها { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } إلى آخر الآية . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها } . قال الإمام الحافظ ابن الجوزي طيب الله مثواه : وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم وإن كانت الموالاة منقطعة . وذكر عن بعضهم نسخها والتي بعدها بآية السيف .

وقال ابن جرير الطبري : لا وجه له ، لأن بر المؤمن المحاربين قرابة كانوا أو غير قرابة لا يحرم إذا لم يكن فيه معونة وتقوية على الحرب بكراع أو سلاح أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء ، ولأن عمر رضي الله عنه أهدى حلة الحرير لأخيه المشرك .

وفي شرح مسلم في حديث أسماء : وفيه جواز صلة القريب المشرك . ففي كلام البلباني إجمال ظهر مما ذكرنا وهو المنع من موالاتهم مما فيه تقوية على حربنا دون غيره والله سبحانه الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية