غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم أخذ الناظم رحمه الله تعالى ورضي عنه يتكلم على مقاصده فقال : ألا كل من رام السلامة فليصن جوارحه عن ما نهى الله يهتدي ( ألا ) حرف استفتاح ويأتي على خمسة أوجه : للتنبيه كقوله تعالى { ألا إنهم هم السفهاء } وتفيد التحقيق لتركبها من الهمزة ولا .

وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق ، وتأتي للتوبيخ والإنكار كقول الشاعر :

    ألا ارعواء لمن ولت شبيبته
وآذنت بمشيب بعده هرم

وللاستفهام عن النفي كقول الشاعر :

ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد     إذا ألاقي الذي لاقاه أمثالي

وللعرض والتحضيض وتقدم معناهما ، ومعناهما هنا التحقيق ( كل من ) أي إنسان ( رام ) قصد وطلب ( السلامة ) أي البراءة من العيوب كما في القاموس وهي من الكلمات الجوامع ، فإن من سلم نجا ، فهي قريبة من العافية .

ولذا يكون كلام الرسل عند مرور الناس على الصراط اللهم سلم سلم . وما أحسن قول من قال :

وقائلة مالي أراك مجانبا     أمورا وفيها للتجارة مربح
فقلت لها كفي ملامك واسمعي     فنحن أناس بالسلامة نفرح

( فليصن ) أي فليحفظ ، يقال صنته أي حفظته في صوانة صونا وصيانا وصيانة فهو مصون ، والصوان بضم الصاد وكسرها ، والصيانة بالكسر مع الياء لغة هو ما يصان فيه الشيء كما في لغة الإقناع لمؤلفه رحمه الله تعالى ( جوارحه ) جمع جارحة سميت بذلك لأنها تكتسب وتتصرف ( عن ما ) أي عن الأشياء التي ( نهى الله ) سبحانه وتعالى عنها نهيا مؤكدا جازما مقتضيا للوعيد على الفعل ، فإنه يكون للتحريم كقوله جل شأنه : { لا تأكلوا الربا } و { لا تقربوا الزنا } وإن كان النهي ليس معه جزم فنهي كراهة كقوله صلى الله عليه وسلم { إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه فإنه في صلاة } رواه الترمذي وابن ماجه .

وصون [ ص: 60 ] الإنسان جوارحه وقلبه عن الأول واجب وعن الثاني مستحب كما يأتي . فمن صانها عن الأشياء المنهي عنها فإنه يهتدي للصراط المستقيم والطريق السالك القويم الهداية التامة ، ويفوز بالنجاة والدرجات العلى يوم القيامة ، ويسلم من القيود والأغلال ، ويكون له في ميدان الصالحين مجال . ومفهوم نظامه أن من لم يصن جوارحه عن ما نهى الله عنه من المحظورات يكون عن السلامة بمعزل ، لأنه لم يتق الله ولم يراقبه فيم نهى وأمر .

وقد أوصى الله بتقواه ، فالتقوى وصية الله للأولين والآخرين ، قال تعالى { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وقال تعالى { اتقوا الله حق تقاته } قال ابن مسعود : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا . قال ابن رجب : والموقوف أصح

. قال الحافظ ابن رجب : وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات . ومعنى ذكره فلا ينسى ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها .

التالي السابق


الخدمات العلمية