غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
قال الشيخ الإمام القدوة الزاهد العابد العارف عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي الذي قال في حقه شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه جنيد وقته ، وكان من أصحاب ابن تيمية المعتبرين ، في رسالته التي كتبها لجماعة شيخ الإسلام يحثهم على متابعته ويعظمه في نفوسهم ويذكر لهم من حقه ما يجب .

قال في أول الرسالة : وأبدأ من ذلك بأني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وهي وصية الله تعالى إلينا وإلى الأمم من قبلنا كما بين سبحانه وتعالى قائلا وموصيا { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب بحسب الأوقات والأحوال من الأقوال والأعمال والإرادات والنيات .

وينبغي لنا جميعا أن لا نقنع من الأعمال بصورها حتى نطالب قلوبنا بين يدي الله تعالى بحقائقها ، ومع ذلك فليكن لنا همة علوية تترامى إلى أوطان القرب ونفحات المحبوبية والحب ، فالسعيد من حظي من ذلك بنصيب وكان سيده ومولاه منه على سائر الأحوال قريبا ، إلى أن قال : وليكن لنا جميعا من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه ، وتعالى قدسه ، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ، ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا ، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار ، فبذلك يعرف [ ص: 61 ] الإنسان مع ربه .

فمن كان له مع ربه حال تحركت في تلك الساعة عزائمه ، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره ، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده ، فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار ، لما احتوشته من الهموم الدنيوية ذوات الآصار ، فليعلم أنه ليس له ثم رابطة علوية ، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية ، فليبك على نفسه ، ولا يرضى منها إلا بنصيب من قرب ربه وأنسه .

فإذا خلصت لله تلك الساعة أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع ، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة بساعة لله الواحد القهار نعبده فيها حق عبادته ، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج .

وقال في محل آخر في غير الرسالة : ويحاسب الإنسان نفسه في حركات جوارحه السبع من حين تطلع الشمس إلى أن تغيب ، ومن غروبها إلى أن تطلع ، وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، وسيأتي الكلام عليها .

وأصل الجميع القلب بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم { ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } رواه البخاري ومسلم .

فإصلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه ، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة ربه ومحبة ما يحبه ، وخشيته وخشية الوقوع فيما يكرهه ، صلحت حركات جوارحه كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها وتوقي المشتبهات ، حذرا من الوقوع في المحرمات وحصلت له السلامة من جميع الآفات ، والعافية من كل الهلكات .

وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه ، وطلب ما يحبه ولو كرهه مولاه ، فسدت حركات الجوارح ، وانبعث إلى كل المعاصي والقبائح . ولذا يقال القلب ملك الأعضاء وهي جنوده الطائعة ، وحركتها كلها لحركته تابعة .

فإن كان الملك صالحا كانت الجنود صالحة ، وإن كان فاسدا كانت جنوده بهذه الحالة الفاضحة . وقد نص القرآن الحكيم ، أنه لا ينفع عند الله إلا القلب السليم . وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه { وأسألك قلبا سليما } فالقلب السليم هو الذي ليس فيه سوى ما يحبه الرب الحكيم .

[ ص: 62 ] وفي مسند سيدنا الإمام أحمد طيب الله مثواه عن أنس بن مالك خادم رسول الله رضي الله عنه وأرضاه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه } قال الحافظ ابن رجب - عليه رحمة ربه - : المراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه في طاعة ربه ، فإن أعمالها لا تستقيم إلا باستقامة قلبه . ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئا من تعظيم الله وحبه ، وحب طاعته ، وكراهة معصيته وغضبه .

قال الحسن لرجل : داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ، يعني أن مطلوب الرب من العباد ، صلاح قلوبهم من المحن والفساد ، ولا صلاح للقلوب ، حتى تستقر فيها معرفة علام الغيوب ، وتمتلئ من خوفه وخشيته ومحبته وعظمته والتوكل عليه ومهابته والالتجاء إليه ، وهذا حقيقة التوحيد لله تعالى ، وهو معنى ( لا إله إلا الله ) فلا صلاح للقلوب حتى تفرد محبة المحبوب .

وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى : { لا تشركوا بي شيئا } لا تحبوا غيري .

وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء } وأدناه أن يحب على شيء من الجور ، وأن يبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض . قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي ويدل على ذلك قوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان } قال الحافظ ابن رجب : ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا . ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح ، فإذا كان القلب صالحا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله ، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه .

قال الحسن ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية ، فإن كانت طاعة [ ص: 63 ] تقدمت ، وإن كانت معصية تأخرت .

وقال محمد بن الفضيل البلخي : ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل .

وقيل لداود الطائي : لو تنحيت من الظل إلى الشمس ، فقال هذه خطا لا أدري كيف تكتب . فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم فلم يبق فيها إرادة لغير الله صلحت جوارحهم فلم تتحرك إلا لله عز وجل مما فيه رضاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية