غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في ذكر طرف من آفات اللسان

( المقام الأول ) في ذكر طرف من آفات اللسان وهي كثيرة جدا منها الكلام فيما لا يعني ، ومعنى الذي لا يعنيه لا تتعلق عنايته به ولا يكون من مقصده ومطلوبه . والعناية شدة الاهتمام بالشيء ، يقال عناه يعنيه اهتم به وطلبه .

وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } قال الحافظ ابن رجب : وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس بل بحكم الشرع والإسلام ولذا جعله من حسن الإسلام ، فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال ، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات ، وكذا يندب إلى فعل المندوبات .

فالمراد بتركه ما لا يعني من المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها ، فإن [ ص: 70 ] هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ درجة الإحسان ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه ، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد أحسن إسلامه ، ولزم من ذلك أن يترك كل ما يستحيا منه .

وفي مسند الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا { الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما حوى ، وتحفظ البطن وما وعى ، ولتذكر الموت والبلى ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء } .

وفي المسند من حديث الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه } .

وأخرج الخرائطي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم ؟ قال له مرهم بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم } .

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { كان في صحف إبراهيم عليه السلام وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب } .

وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم .

وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه .

ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه . وكذا قال عمر بن عبد العزيز : من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .

وأخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال { توفي رجل من أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل يعني أبشر بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه ، أو بخل بما لا يغنيه وفي بعضها أن الصحابي قتل شهيدا } .

وأخرج العقيلي عن أبي هريرة مرفوعا { أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما فيما لا يعنيه } .

[ ص: 71 ] قال الحافظ ابن رجب دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه ، فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين ، كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني ، وكان قلبي سليما للمسلمين .

وقال الحسن : من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه .

وقال سهل التستري : من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق .

وقال معروف : كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل .

ومر رجل بلقمان الحكيم والناس عنده ، فقال له : ألست عبد بني فلان ؟ قال بلى ، قال الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا ؟ قال بلى ، قال فما بلغ بك ما أرى ؟ قال صدق الحديث ، وطول السكوت عما لا يعنيني .

ومنها كثرة الكلام ، وقد ذكرنا أن من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .

وقد قال النخعي : يهلك الناس في فضول الكلام والمال . وفي الترمذي عن ابن عمر مرفوعا : { لا تكثر الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب ، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي } .

وقال عمر : من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به . وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف .

وكان سيدنا أبو بكر الصديق رضوان الله عليه يأخذ بلسانه ويقول : هذا الذي أوردني الموارد .

فقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يجبذ لسانه ، فقال عمر : مه غفر الله لك ، فقال أبو بكر : هذا أوردني الموارد .

وفي رواية للبيهقي : هذا أوردني شر الموارد . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذرب اللسان على حدته } . وذرب اللسان بفتح الذال المعجمة والراء جميعا هو حدته وشره وفحشه .

وقال ابن بريدة : رأيت ابن عباس رضي الله عنهما أخذ بلسانه وهو يقول ويحك قل خيرا تغنم أو اسكت عن شر تسلم ، وإلا فاعلم أنك [ ص: 72 ] ستندم . قال فقيل له : يا أبا عباس لم تقول هذا ؟ قال إنه بلغني أن الإنسان - أراه قال - ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا قال به خيرا أو أملى به خيرا .

وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان .

وقال الحسن : اللسان أمير البدن إذا جنى على الأعضاء شيئا جنت ، وإذا عف عفت .

وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه : إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب ، فقال لو كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصية الله من ذهب .

وأخرج ابن أبي الدنيا والبزار والطبراني وأبو يعلى ورواته ثقات عن أنس رضي الله عنه قال { لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما ؟ قال بلى يا رسول الله ، قال عليك بحسن الخلق ، وطول الصمت ، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلها } .

وروى ابن أبي الدنيا وأبو يعلى عن أنس مرفوعا { من سره أن يسلم فليلزم الصمت } .

وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال : وإضاعة المال ، وكثرة السؤال } .

وقال بعض السلف : لو كنتم تشترون الكاغد للحفظة لمسكتم عن كثير من الكلام .

وقيل لبعضهم : لم لزمت السكوت ؟ قال : إني لم أندم على السكوت قط ، وقد ندمت على الكلام مرارا .

وفيما قيل : جرح اللسان كجرح اليد . وقيل : اللسان كلب عقور ، إن خلي عنه عقر .

[ ص: 73 ] وروي عن سيدنا الإمام علي رضي الله عنه أنه أنشد بلسانه :

يموت الفتى من عثرة من لسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل     فعثرته من فيه ترمي برأسه
وعثرته بالرجل تبرى على مهل

ومما قيل :

قد أفلح الساكت الصموت     كلامه قد يعد قوت
ما كل نطق له جواب     جواب ما تكره السكوت
وأعجب الأمر من ظلوم     مستيقن أنه يموت

وأنشد بعضهم :

عجبت لإدلال الغبي بنفسه     وصمت الذي قد كان بالعلم أعلما
وفي الصمت ستر للغبي وإنما     صحيفة لب المرء أن يتكلما

قال الإمام ابن مفلح في الآداب الكبرى : كان الإمام مالك يعيب كثرة الكلام ويقول : لا يوجد إلا في النساء والضعفاء .

وفي خبر مأثور : الخير كله في ثلاث : السكوت والكلام والنظر ، فطوبى لمن كان سكوته فكرة ، وكلامه حكمة ، ونظره عبرة ، والله أعلم .

ومنها الكذب ، وهو من الآفات العظام والذنوب الجسام ، والبذاذة ، وشهادة الزور ، وقول الفجور ، وسيأتي الكلام عليها في محالها إن شاء الله تعالى .

ومنها القذف ، وتقدم حديث أبي هريرة في الموبقات عند الشيخين وغيرهما .

وروى الطبراني بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه } .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال } .

التالي السابق


الخدمات العلمية