غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما فرغ الناظم من أحكام الدواب ومن وسمها ، وما عطف عليه ، وما يباح قتله ، وما يحرم ، وما يكره ، وما يستحب وذكر حكم الإكراه ، وأنه ما يحل للمضطر يحل للمكره ، وأن المكره أقواله وأفعاله الصادرة منه لداعي الإكراه لغو إلا ما استثنى أعقب ذلك ببيان طرف من آداب الأكل والشرب فقال :

مطلب : في آداب الأكل :

ويكره نفخ في الغدا وتنفس وجولان أيد في طعام موحد ( ويكره ) تنزيها ، وقد مر غير مرة أن المكروه يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله ( نفخ ) مصدر نفخ . قال في القاموس نفخ بفيه أخرج منه الريح ( في الغدا ) متعلق ب نفخ .

أصل الغدا طعام الغدوة وجمعه أغدية [ ص: 87 ] وتغدى أكل أول النهار وغديته تغدية فهو غديان ، وهي غديا ، والغدوة بالضم البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة ، والغدية .

وفي اصطلاح الفقهاء الغداء ما كان قبل الزوال ، والعشاء بعده إلى نصف الليل .

فلو حلف لا يتغدى فأكل بعد الزوال ، أو لا يتعشى فأكل بعد نصف الليل ، أو لا يتسحر فأكل قبل نصف الليل ولا نية لم يحنث ، والمراد به في كلام الناظم مطلق الطعام والشراب هذا إن كان بالغين المعجمة والدال المهملة كما هو مكتوب في بعض النسخ ، وصوابه بالغين المكسورة والذال المعجمتين .

قال في القاموس : الغذاء ككساء ما به نماء الجسم وقوامه وغذاه غذوا وغذاه واغتذى وتغذى ، فإن لفظه بالذال المعجمة يدل على الأكل والشرب كل وقت بالمطابقة بخلاف الغداء بالدال المهملة ، فإنما يدل على الأكل قبل الزوال خاصة ويحمل عليه بقية الطعام والشراب في غير ذلك الوقت ، وما دل بالمطابقة أولى مما لا دلالة على شيء إلا بطريق الحمل .

فظهر أن المعجمة هي الصواب والله أعلم ( و ) يكره أيضا في الغدا يعني في المأكول ، والمشروب ( تنفس ) أي أن يتنفس في الإناء الذي فيه الغذاء قبل إبانته عن فيه بأن يخرج نفس الشارب ونحوه في الإناء . والنفس بالتحريك واحد الأنفاس ، وتنفس الصبح تبلج .

مطلب : فيما ورد من النهي عن النفخ في الإناء والتنفس فيه .

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن النفخ في الإناء والتنفس فيه } . روى الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى أن يتنفس في الإناء ، أو ينفخ فيه } .

وروى الترمذي أيضا ، وقال حسن صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل : القذاة أراها في الإناء فقال أهرقها قال : فإني لا أروى من نفس واحد ، قال فأبن القدح إذن عن فيك } .

وأخرج أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أيضا رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب } .

وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي { النهي عن التنفس في الإناء } من حديث أبي قتادة .

[ ص: 88 ] وروى ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى أن يشرب الرجل من في السقاء وأن يتنفس في الإناء } . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية } يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها

. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى أن يشرب من في السقاء ، فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية } ، رواه البخاري مختصرا دون قوله : فأنبئت إلى آخره ورواه الحاكم بتمامه ، وقال : صحيح على شرط البخاري .

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية ، وأن رجلا بعد ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قام من الليل إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية } رواه ابن ماجه من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، وبقية إسناده ثقات ، وقوله : عن اختناث السقاء يقال خنث السقاء وأخنثه إذا كسر فمه إلى خارج فشرب منه .

مطلب : في إبانة الشاب القدح عن فيه ثلاثا .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : روى الترمذي وحسنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يتنفس في الإناء ثلاثا ويقول : هو أمرأ وأروى } .

وروي أيضا عن ثمامة عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس ثلاثا } ، وقال : هذا صحيح ، قال الحافظ المنذري : وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبين القدح عن فيه كل مرة ، ثم يتنفس كما جاء في حديث أبي سعيد المتقدم لا أنه كان يتنفس في الإناء .

وقال ابن الأثير في نهايته : وفيه أنه نهى عن النفس في الإناء ، وفي حديث آخر أنه كان يتنفس في الإناء ثلاثا ، يعني في الشرب ، الحديثان صحيحان وهما باختلاف تقديرين أحدهما أن يشرب ، وهو يتنفس في الإناء من غير أن يبينه عن فيه ، وهو مكروه ، والآخر أن يشرب من الإناء بثلاثة أنفاس يفصل فيها فاه عن الإناء .

[ ص: 89 ] الثاني ) : روى أبو داود ، والبيهقي { أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإداوة يوم أحد فقال : اختنث فم الإداوة ، ثم شرب من فيها } فما هذا الأمر بعد النهي الصحيح والزجر عن اختناث الأسقية ؟ فظاهر صنيع البيهقي أن خبر النهي كان بعد هذا فيكون منسوخا ، وأما الترمذي ، فإنه رواه ، وقال : ليس إسناده بصحيح فيكون المعول عليه الزجر لا الأمر ، وهو ظاهر صنيع الحافظ المنذري والله أعلم .

مطلب : لا بأس بنفخ الطعام والشراب إذا كان حارا لحاجة .

( الثالث ) : قال الآمدي ونقله عنه ابن مفلح في الآداب الكبرى وغيره : لا بأس بنفخ الطعام إذا كان حارا ويكره أكله حارا ، وهو ظاهر الإقناع ، فإنه قال : ويكره نفخ الطعام والشراب والتنفس في إنائهما وأكله حارا إن لم يكن حاجة ، فقوله : إن لم يكن حاجة راجع إلى النفخ والتنفس وأكل الحار .

وفي المستوعب : النفخ في الطعام والشراب ، والكتاب منهي عنه ، قال الآمدي : لا يكره النفخ والطعام حار وصوبه في الإنصاف إن كان ثم حاجة إلى الأكل حينئذ والله أعلم .

( الرابع ) : مراد الناظم بالغدا ما يشمل الشراب إذ لا فرق بين المأكول ، والمشروب . قال في الآداب الكبرى : يكره نفخ الطعام والشراب ، أطلقه الأصحاب لظاهر الخبر ، وحكمة ذلك تقتضي التسوية ، وبذلك سوى الشارع بين النفخ والتنفس فيه انتهى . فيشمل نحو قهوة البن مع أنها إنما تشرب ، وفيها حرارة لكن غير مؤذية ، فإذا احتاج إلى النفخ فلا كراهة وإلا كره والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية