غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 111 ] مطلب : مراتب الغذاء ثلاثة ، وقال الإمام ابن القيم في الهدي النبوي : مراتب الغذاء ثلاثة :

( أحدها ) : مرتبة الحاجة .

( والثانية ) : مرتبة الكفاية .

( والثالثة ) : مرتبة الفضيلة .

فأخبر صلى الله عليه وسلم { أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه } فلا تسقط قوته ولا يضعف ، فإن تجاوزها فليأكل ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس ، وهذا أنفع للبدن ، والقلب ، فإن البدن إذا امتلأ من الطعام وضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة الحمل الثقيل هذا مع ما يلزم ذلك من فساد القلب وكسل الجوارح عن الطاعات ، والعبادات ، فالامتلاء مضر للقلب ، والبدن ، هذا إذا كان دائما ، وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به . واستشهد بحديث أبي هريرة وبشبع الصحابة رضي الله عنهم مرارا بحضرته صلى الله عليه وسلم فهذا بعض منافع تقليل الغذاء وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته .

وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه ، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى ، والغضب ، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك . وقال الحسن : يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلث ودع ثلث بطنك للنفس لتتفكر ، وقال المروذي : جعل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد رضي الله عنه يعظم أمر الجوع ، والفقر فقلت : يؤجر الرجل في تلك الشهوات ؟ فقال : وكيف لا يؤجر وابن عمر يقول : ما شبعت منذ أربعة أشهر ؟ قلت لأبي عبد الله : يجد الرجل من قلبه رقة ، وهو يشبع ؟ قال : ما أرى .

قال ابن سيرين : قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما : ألا أجيئك بجوارش قال : وأي شيء يهضم الطعام إذا أكلته قال : ما شبعت منذ أربعة أشهر وليس ذلك لأني لا أقدر عليه ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون . وروى يحيى بن منده في كتاب مناقب الإمام أحمد بإسناده عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم { : ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس } قال : ثلث للطعام هو القوت وثلث للشراب هو القوى وثلث للنفس هو الروح . وذكر ابن عبد البر وغيره [ ص: 112 ] أن عمر رضي الله عنه خطب يوما فقال : إياكم ، والبطنة ، فإنها مكسلة عن الصلاة مؤذية للجسم وعليكم بالفضل في قوتكم ، فإنه أبعد من الأشر وأصح للبدن وأقوى على العبادة ، وإن امرأ لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه .

وقال الفضيل بن عياض : خصلتان يقسيان القلب : كثرة الكلام وكثرة الأكل . وروى المروزي بإسناده عن محمد بن واسع أنه قال : " من قل طعمه فهم وأفهم وصفا ورق ، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد ، وقال أبو عبيدة الخواص : حتفك في شبعك وحظك في جوعك إذا أنت شبعت ثقلت فنمت استمكن منك العدو فجثم عليك وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد .

وقال سلمة بن سعيد : إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله .

وقال مالك بن دينار : ما ينبغي للعاقل أن يكون بطنه أكبر همه وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه . وكان يقال : لا تسكن الحكمة معدة ملأى .

وقال بشر بن الحارث ما شبعت منذ خمسين سنة ، وقال ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال ; لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام .

فانظر رحمك الله هذه الهمم العلية ، والأنفس الزكية ، ونحن في هذه الأعصار ، نتضلع من هذه الأقذار ، ولا نتزود لتلك الدار . عياذا بك اللهم من مر الأقدار ، والخلود إلى نيل الشهوات الموجبة إلى دخول النار . ولا حول ولا قوة إلا بالله الرحيم الغفار . .

التالي السابق


الخدمات العلمية