غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب في غض الطرف .

قال الإمام ابن هشام في شرحه لقصيدة كعب : غض الطرف عبارة عن ترك التحديق واستيفاء النظر ، فتارة يكون ذلك لأن في الطرف كسرا وفتورا خلقيين وهو المراد في كلام كعب ، وتارة يكون لقصد الكف عن التأمل حياء من الله تعالى وهو المراد في كلام الناظم ، فإن مراده رحمه الله تعالى فاغضض طرفك امتثالا لقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ولما سنذكره من الأخبار النبوية والآثار المروية ( ما اسطعت ) أي مدة استطاعتك ، يقال استطاع واسطاع بحذف التاء تخفيفا لأنهم يستثقلونها مع الطاء ويكرهون إدغام التاء فيها فتحرك السين وهي لا تحرك أبدا .

وقرأ حمزة { فما استطاعوا } بالإدغام فجمع بين الساكنين . وبعض العرب تقول استاع يستيع ، وبعضهم يقول إسطاع يسطيع بقطع الهمزة بمعنى أطاع يطيع ومعنى ذلك طاق ( تهتد ) أي ترشد بغض طرفك لامتثال أمر ربك واتباع سنة نبيك ، وتسلم من غائلة النظر وتعبه وجرمه ووصبه .

أخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه عز وجل { النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه } ورواه الحاكم من حديث حذيفة وقال صحيح الإسناد وفيه نظر . وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه } رواه الطبراني إلا أنه قال ينظر إلى امرأة أول رمقة والبيهقي قال إنما أراد إن صح والله أعلم أن يقع بصره عليها من غير قصد فيصرف بصره عنها تورعا .

وروى الأصبهاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله ، وعينا سهرت في سبيل الله ، وعينا خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله } .

[ ص: 83 ] وأخرج الطبراني بإسناد رجاله ثقات إلا أبا حبيب العبقري ويقال له الغنوي فقال المنذري لم أقف عليه ، عن معاوية بن حيدرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا ترى أعينهم النار : عين حرست في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله ، وعين كفت عن محارم الله } . وأخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد واعترضه المنذري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا اؤتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم } .

وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى } .

ورواه أبو داود من حديث بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي { يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة } وحسنه الترمذي .

فقوله صلى الله عليه وسلم لعلي { إنك ذو قرنيها } أي ذو قرني هذه الأمة ، وذلك لأنه كان له شجتان في قرني رأسه أحدهما من ابن ملجم لعنه الله والأخرى من عمرو بن عبد ود . قاله المنذري .

وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في التبصرة في قوله صلى الله عليه وسلم لعلي وإنك ذو قرنيها : وفي الضمير وجهان أحدهما أنه كناية عن هذه الأمة من غير ذكر تقدم لها كقوله تعالى { حتى توارت بالحجاب } يعني الشمس .

الثاني عن الجنة . وأما تسميته بذي القرنين ففيه وجهان إن قلنا أن الكناية عن الأمة فإن عليا رضي الله عنه ضرب على رأسه في الله تعالى ضربتين ، الأولى ضربه إياها عمرو بن عبد ود ، الثانية ابن ملجم ، كما ضرب ذو القرنين ضربة بعد ضربة . وإن قلنا الكناية عن الجنة فقرناها جانباها . ذكره ابن الأنباري .

وقال الحافظ المنذري : وقيل معناه أنك ذو قرني الجنة أي ذو طرفيها وملكها الممكن فيها الذي يسلك جميع نواحيها كما سلك الإسكندر [ ص: 84 ] جميع نواحي الأرض شرقا وغربا فسمي ذا القرنين على أحد الأقوال .

وقد بينت ذلك في كتابي الجواب المحرر في الكشف عن الخضر والإسكندر .

قال ابن الجوزي : قوله صلى الله عليه وسلم { فلا تتبع النظرة النظرة } إلخ ربما تحايل أحد جواز القصد للأولى وليس كذلك ، وإنما الأولى التي لم يقصدها . وفي أفراد مسلم من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة قال اصرف نظرك } قال ابن الجوزي : وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب ، ولا يتأمل بها المحاسن ، ولا يقع الالتذاذ بها ، فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم .

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه } .

وفي رواية لمسلم وأبي داود { واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان فزناهما المشي ، والفم يزني فزناه القبل } .

وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح والبزار وأبو يعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { العينان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والفرج يزني } .

وأخرج البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا { الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع } ومعنى حواز بفتح الحاء المهملة وتشديد الواو وهو ما يحوزها ويغلب عليها حتى ترتكب ما لا يحسن ، وقيل بتخفيف الواو وتشديد الزاي جمع حازة وهي الأمور التي تحز في القلوب وتحك وتؤثر وتتخالج في القلوب فتكون معاصي ، وهذا أشهر .

ومنه { الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس } وروي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لتغضن أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، أو ليكسفن الله وجوهكم } .

[ ص: 85 ] وفي صحيح الحاكم عن ابن مسعود مرفوعا { ما من صباح إلا وملكان يناديان ويل للرجال من النساء ، وويل للنساء من الرجال } .

وفي التبصرة : كان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول : النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة .

وقال الحسن رضي الله عنه : من أطلق طرفه كثر أسفه .

وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الداء والدواء : أما اللحظات فهي رائدة الشهوة ورسولها ، وحفظها أصل حفظ الفرج ، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات . وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا يا رسول الله مجالسنا ما لنا منها بد ، قال فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حقه ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ، ورد السلام } .

وقد نظم الحافظ ابن حجر آداب الجلوس على الطريق في قوله :

جمعت آداب من رام الجلوس على الط ريق من قول خير الخلق إنسانا     أفش السلام وأحسن في الكلام وش
مت عاطسا وسلاما زاد إحسانا     في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث
لهفان وارشد سبيلا واهد حيرانا     بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى
وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا

وزاد شيخ مشايخنا العلامة عبد الباقي الحنبلي والد أبي المواهب علي بن حجر بيتا وهو :

والصم والعمي أبلغ ثم دل على ال     حاجات والأغبيا كن صاح فطانا

قال الإمام المحقق ابن القيم في الداء والدواء : والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ، فإن النظرة تولد خطرة ، ثم تولد الخطرة فكرة ، ثم تولد الفكرة شهوة ، ثم تولد الشهوة إرادة ، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع .

وفي هذا قيل : الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألم بعده . وقال الشاعر : [ ص: 86 ]

كل الحوادث مبداها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها     فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها     في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره     لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

وقال الحجاوي : فضول النظر أصل البلاء لأنه رسول الفرج ، أعني الآفة العظمى والبلية الكبرى ، والزنا إنما يكون سببه في الغالب النظر ، فإنه يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والفكرة ، فهذه الفتنة من فضول النظر ، وهو من الأبواب التي تفتح للشيطان على ابن آدم .

وما أحسن قول الإمام الصرصري رحمه الله ورضي عنه :

وغض عن المحارم منك طرفا     طموحا يفتن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأسد غاب     إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها     يجد في قلبه روحا وطيبا

ومن آفات النظر أنك ترى ما لا قدرة لك عليه ، ولا صبر لك عنه ، وكفى بهذا فتنة كما قيل :

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وأنشد الإمام ابن القيم في الداء والدواء لنفسه :

مل السلامة فاغتدت لحظاته     وقفا على طلل يظن جميلا
ما زال يتبع إثره لحظاته     حتى تشحط بينهن قتيلا

وله قصيدة ذكرها برمتها في بدائع الفوائد :

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا     أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف ترتاد الشفاء له     توقه إنه يرتد بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض     فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم     وصفا للطخ جمال فيه مكتسب
وواهبا عمره من مثل ذا سفها     لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر     بطيف عيش من الأيام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس     ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب

[ ص: 87 ] إلى أن قال :

شاب الصبا والتصابي لم يشب سفها     وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها     والغي في الأفق الشرقي لم يغب

ومما أنشد لنفسه في الداء والدواء :

ما زلت تتبع نظرة في نظرة     في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الت     تحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا     فالقلب منك ذبيح ابن ذبيح



التالي السابق


الخدمات العلمية