غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في أن خير الأمور أوسطها :

وخير خلال المرء جمعا توسط الأمور وحال بين أردى وأجود

و ( خير ) مبتدأ ( خلال ) جمع خلة بفتح الخاء المعجمة ، وهي الخصلة ، أي خير خصال ( المرء ) أي الإنسان من الذكور ، والإناث ( جمعا ) أي كلها ( توسط ) خبر المبتدأ و ( الأمور ) مجرور بالإضافة أي أفضل شؤون [ ص: 166 ] الإنسان مراعاة الوسط بين الخشونة والنعومة ، والرقيق الشفاف من الثياب ، والصفيق الخشن منها ، فخير الأمور أوسطها ( وحال بين ) حالين ( أردى وأجود ) فيكون بين طرفي الإفراط والتفريط .

قال الجوهري : الوسط محركة من كل شيء : أعدله . قال تعالى { جعلناكم أمة وسطا } أي عدلا . وذكره في القاموس أيضا ، وقال : ووسط الشيء محركة ، ما بين طرفيه كأوسطه ، فإذا سكنت كانت ظرفا ، أو هما فيما هو مصمت كالحلقة ، فإذا كانت أجزاؤه متباينة فبالإسكان فقط ، أو كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين وإلا فبالتحريك . انتهى .

ودليل هذا يعني اختيار حالة التوسط أكثر من أن تذكر ، والقرآن مملوء من ذلك في شؤون شتى ، مثل { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } . { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } { واقصد في مشيك واغضض من صوتك } ، والقصد ما بين الإسراف والتقتير .

وقد روى الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي يعفور قال : سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يسأله رجل ما ألبس من الثياب ؟ قال : ما لا يزدريك فيه السفهاء ويعيبك به الحكماء . قال ما هو ؟ قال : بين الخمسة دراهم إلى العشرين درهما .

وفي كتاب الغيبة لابن أبي الدنيا عن سيدة النساء فاطمة رضوان الله عليها ، والطبراني في الكبير ، والأوسط عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا { شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ، الذين يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون في الكلام } هذا لفظ حديث سيدتنا فاطمة .

ولفظ حديث أبي أمامة { سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام ، ويشربون ألوان الشراب ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون في الكلام ، فأولئك شرار أمتي } وهما ضعيفان كما أشار إليهما المنذري رحمه الله تعالى . .

وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن يزيد { أن رجلا من الصحابة يقال له عبيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كثير من [ ص: 167 ] الإرفاه } قال في فتح الباري : الإرفاه بكسر الهمزة وبفاء آخره هاء ، التنعم والراحة . ومنه الرفه بفتحتين . وقيد في الحديث بالكثرة إشارة إلى أن الوسط المعتدل منه لا يذم . وبذلك جمع بين الأخبار . انتهى .

وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ينبغي للعالم أن يتوسط في ملبسه ونفقته وليكن إلى التقليل أميل ، فإن الناس ينظرون إليه . وينبغي الاحتراز مما يقتدى فيه به ، فإنه متى ترخص في الدخول على السلاطين وجمع الحطام فاقتدى به غيره كان الإثم عليه ، وربما سلم هو في دخوله ولم يفقهوا كيفية سلامته . ومقتضى كلام ابن البنا أنه لا إثم عليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية