غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : النكاح مأمور به شرعا مستحسن وضعا وطبعا ويعتريه أحكام أربعة .

( تنبيهات ) :

( الأول ) : النكاح مأمور به شرعا ، مستحسن وضعا وطبعا ، فإن به بقاء النسل ، وعمار الدنيا ، وعبادة الله ، والقيام بالأحكام ، وذكر الله من الصلاة والزكاة والحج والتوحيد والصيام . وقد أمر الله جل شأنه به في كتابه القديم ، وحض عليه رسوله الكريم . قال في محكم كتابه العظيم : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم } .

ثم إنه من حيث هو يعتريه من الأحكام الخمسة أربعة ، فيسن لذي شهوة ولا يخاف الزنا ولو فقيرا ، واشتغاله به أفضل من التخلي لنوافل العبادة ، ويباح لمن لا شهوة له ، ويجب على من يخاف الزنا من رجل وامرأة علما أو ظنا ، ويقدم حينئذ على حج واجب ، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه ، ولا يكتفي في الوجوب بمرة واحدة ، بل يكون في مجموع العمر ، ولا يكتفي بالعقد فقط ، بل يجب الاستمتاع ، ويجزي التسري عنه ، ويجب بالنذر ، ويحرم بدار حرب إلا لضرورة ، فإن كانت لم يحرم . ويعزل وجوبا إن حرم وإلا استحبابا . اللهم إلا أن تكون آيسة أو صغيرة فلا حرمة . وقيل إن النكاح لغير ذي شهوة مكروه لمنع من يتزوجها [ ص: 433 ] من التحصين بغيره ، وإضرارها بحبسها على نفسه ، وتعريض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يقوم بجميعها ، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه .

فإن قلت : قد تقدم في كلام الناظم أنه لا ينكح مع الفقر إلا لضرورة .

وهنا ذكرت أنه يسن لذي شهوة ولو فقيرا حيث لم يخف الزنا .

فالجواب كلام الناظم مبني على مرجوح . قال في الفروع : والمنصوص حتى لفقير . وجزم في النظم لا يتزوج فقير إلا ضرورة . وكذا قيدها ابن رزين بالموسر والمذهب ما ذكرنا نقل صالح عن الإمام يقترض ويتزوج . واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يصبح وما عندهم شيء ويمسي وما عندهم شيء } ; ولأنه صلى الله عليه وسلم { زوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد ولا وجد إلا إزاره ولم يكن له رداء } أخرجه البخاري . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذا فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره ، انتهى .

وفي الشرح الكبير : هذا في حق من يمكنه التزويج فأما من لم يمكنه فقد قال تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } انتهى .

وأقول مستمدا من الله التوفيق والحول : ينبغي أن يفصل بين الفقير الذي لا يجد ما ينفق وليس بذي كسب وهو مع ذلك ليس بذي شهوة . فيقال يكره النكاح في حقه لعدم قدرته على مؤن النكاح . وعدم تحصين زوجته . وعدم حاجته إليه . فحينئذ تكمل الأحكام الخمس . ثم رأيت ابن قندس في حواشي الفروع ذكرها رواية عن الإمام أحمد فلله الحمد على الموافقة والله الموفق .

وقد جاءت الأخبار ، وصحت الآثار عن النبي المختار والصحابة الأخيار ، والتابعين الأبرار والمجتهدين الأحبار - بالحث على النكاح والترغيب فيه . وقد مضى عدة أحاديث ناطقة بما نحن فيه . وروى ابن ماجه عن أنس مرفوعا : { من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر } وذكره ابن الجوزي في الموضوعات عن أنس وعلي وابن عباس [ ص: 434 ] رضي الله عنهم . وتعقبه السيوطي بأنه أخرجه ابن ماجه ولم يزد على ذلك والترمذي وحسنه عن أبي أيوب مرفوعا { أربع من سنن المرسلين : الحناء والتعطر والسواك والنكاح } وتقدم الكلام على لفظة الحناء . وأنه روي بالياء الحياء . وإن ابن القيم قال هو الختان والله أعلم .

وروى الترمذي أيضا وقال حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : { ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف } ورواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم

وأخرج الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال : { من كان موسرا لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني } وتقدم .

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : { جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها . فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني } .

وروى البيهقي في السنن عن أبي أمامة مرفوعا : { تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى } قال بعض شراح الجامع الصغير : إسناده ضعيف وكذا قاله في تسهيل السبيل وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يوما لي فيهن طول النكاح لتزوجت مخافة الفتنة .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير رحمه الله تعالى : تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء . [ ص: 435 ] وفي كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين عن المروزي قال أبو عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه : ليست العزوبية من أمر الإسلام في شيء النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربعة عشرة ومات عن تسع .

ولو تزوج بشر بن الحارث تم أمره ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء ومات عن تسع ، وكان يختار النكاح ويحث عليه ، وينهى عن التبتل ، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق ويعقوب في حزنه قد تزوج . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { حبب إلي النساء } .

قال المروزي : قلت له فإن إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال يا لوعة صاحب العيال - فما قدرت أن أتم الحديث - حتى صاح بي وقال وقعت في بنيات الطريق ، أنظر ما كان عليه محمد رسول الله وأصحابه ، ثم قال فبكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا أين يلحق المتعبد والعزب ؟ انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية