غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما كان في هجر اللذات وترك الشهوات قمع للنفس وهواها . قال الناظم رحمه الله تعالى :

مطلب : في ذم الهوى وأن عز النفوس في مخالفة هواها : وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد ( وفي قمع ) أي صرف ( أهواء ) جمع هوى بالقصر ميل ( النفوس ) إلى الشيء وفعله هوى يهوى هوى مثل عمي يعمى عمى ، وأما هوى بالفتح فهو السقوط ومصدره الهوي بالضم ، ويطلق الهوى على نفس المحبوب . قال الشاعر :

    إن التي زعمت فؤادك ملها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها

ويقال هذا هوى فلان وفلانة هواه أي مهويته ومحبوبته ، وقال الشاعر :

هواي مع الركب اليمانين مصعد     جنوبا وجثماني بمكة موثق

[ ص: 455 ] وأكثر ما يستعمل في الحب المذموم ، كما قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } .

ويقال إنما سمي هوى ; لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، ولا شك أن في مخالفة النفوس لهواها ( اعتزازها ) أي قوتها ومنعتها من الشيطان وجنوده وعدم ذلها ، فلما قمع هوى نفسه بمقمعة المتابعة وضربها بسياط الاقتداء ، وصرفها بزمام التقوى ، حصل لها العز والامتناع ، والقوة والارتفاع ، بحسن الاتباع ، ومخالفة الابتداع . يقال قمعه كمنعه ضربه بالمقمعة وقهره وذلله كأقمعه . ويقال عز عزا وعزة بكسرهما وعزازة صار عزيزا كتعزز وقوي بعد ذله .

وقد ورد في الكتاب العزيز عدة آيات في ذم الهوى كقوله : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } ، { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } .

وقال صلى الله عليه وسلم : { لا ينبغي للمرء أن يذل نفسه } قال الإمام أحمد رضي الله عنه : تفسيره أن يتعرض من البلاء لما لا يطيق ، وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في قوله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } : المراد بهذا الهوى ما منع منه وحرم .

واعلم أن المباح قد يفتقر إلى تركه في أوقات لئلا يحمل إلى ما يؤذي ، والكل لا بد له من رياضة ; والآدمي كالفرس إذا أنتج لا بد له من رائض ، فإن كان عربيا حركت الرياضة أصله الجيد فظهر جوهره ، كما أن المس يؤثر في الفولاذ ، وإن كان كودنا منعت بعض أخلاقه الرديئة ، كما أن الحديد قد يقطع ، وكذلك بنو آدم ، فمنهم من خلق على صفة حسنة تؤدبه نفسه ويقومه عقله ، فتأتي الرياضة بتمام التقويم وكمال التعليم .

ومنهم من يقل ذلك في جوهره فيفتقر إلى زيادة رياضة ، ويترك المحبوبات على كره ، ولا بد من رياضة هذا ليفارق المؤذي كيف اتفق . والرياضة ينبغي أن تعمل في جميع الأشياء ، فتؤثر في حق الشره تقليل المطعم إلى أن يعود إلى حالة الاعتدال ، وأخذ ما يصلح ، ولا بد من إعطاء النفس ما يوافقها في مصالحها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام { إن لنفسك عليك حقا } وكذلك الشره في [ ص: 456 ] النكاح وجمع المال وغير ذلك نرده بالرياضة عما يؤذي ، ونأمر المتكبر بالتواضع ، ونأمر السيئ الخلق بالاحتمال والصفح ، وإن شق عليه .

وقال الإمام ابن القيم في روضة المحبين : الهوى ميل النفس إلى ما يلائمها ، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه ، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح . فالهوى ساحب له لما يريده ، كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه ، فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا ، وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار .

ولما كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به ، أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم غلبة الضرر ; لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده ، كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه ، بل لا بد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه ، فحرص الناصح على تعديل قوة الشهوة والغضب من كل وجه كحرص الطبيب على تعديل المزاج من كل وجه ، وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم ، فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه ، وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما إلا ما جاء منه مقيدا كقوله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به } .

وتقدم التنصيص على هذا ، وقد قيل : الهوى كمين لا يؤمن ومطلقه يدعو اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة ، ويحث على نيل الشهوات عاجلا ، وإن كانت سببا لأعظم الآلام أجلا وربما يكون عاجلا أيضا ، فالهوى والنفس والشيطان والدنيا يدعون إلى ما فيه البوار ، ويعمين عين البصيرة عن النظر في العواقب وما يغضب ويرضي الجبار ، والدين والمروءة والعقل والروح ينهين عن لذة تعقب ألما ، وشهوة تورث ندما . ولما ابتلي المكلف وامتحن بالهوى من بين سائر البهائم ، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث جعل فيه حاكمان حاكم العقل وحاكم الدين .

وينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب ، ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه . وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى [ ص: 457 ] حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها ، لأنها صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه .

وليعلم العاقل المؤمن أن الهوى حظار جهنم المحيط بها حولها ، فمن وقع فيه وقع فيها ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات } .

وفي الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه { لما خلق الله الجنة أرسل إليها جبريل فقال انظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع إليه وقال وعزتك لا يسمع بها أحد من عبادك إلا دخلها ، فأمر بها فحجبت بالمكاره ، وقال : ارجع إليها فانظر إليها فإذا هي قد حجبت بالمكاره ، فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد . قال : اذهب إلى النار فانظر إليها ، وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فإذا هي يركب بعضها بعضا ، فرجع إليه فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، فقال : ارجع إليها ، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات ، فرجع إليه وقال : وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد } قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى } . وتقدم أن من المهلكات هوى متبعا .

قال الإمام ابن القيم : مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه . وقال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده .

وفي الحديث الصحيح المرفوع { ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } . وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة على قوته ، وبمخالفته لهواه تعظم حرمته وتغزر مروءته . قال معاوية خال المؤمنين : المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى .

وقال بعض السلف : إذا أشكل عليك أمر أن لا تدري أيهما أرشد [ ص: 458 ] فخالف أقربهما من هواك ، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى . وقال بشر الحافي رحمه الله ورضي عنه : البلاء كله في هواك . والشفاء كله في مخالفتك إياه . .

وقد قيل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل ؟ قال جهادك هواك .

قال الإمام المحقق ابن القيم : وسمعت شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه يقول : جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين ، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم ، فمن قهر هواه عز وساد ، ومن قهره هواه ذل وهان وهلك وباد . ولذا قال الناظم رحمه الله :

التالي السابق


الخدمات العلمية