غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : ذكر الأخبار الواردة في العزلة .

وقد جاء في مدح العزلة عدة أخبار ، عن النبي المختار ، وجملة آثار ، عن السلف الأخيار ، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال { : قال رجل أي الناس أفضل يا رسول الله ؟ قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله . قال ثم من ؟ قال : رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه } - وفي رواية لهما { - يتقي الله ويدع الناس من شره } . ورواه الحاكم بإسناد على شرطهما بلفظ { أي المؤمنين أكمل إيمانا ؟ قال : مؤمن يجاهد بنفسه وماله ، ورجل يعبد ربه في شعب من الشعاب وقد كفى الناس شره } .

وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد قال { : كان سعد بن أبي وقاص في إبله ، فجاءه ابنه عمر فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب ، فنزل فقال له : أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك ، فضربه سعد في صدره وقال : اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي } . قال الحافظ المنذري : أي الغني النفس القنوع .

وروى الإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان واللفظ له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من جاهد في سبيل الله كان ضامنا على الله ، ومن عاد مريضا كان ضامنا على الله ، ومن دخل على إمام يعزره كان ضامنا على الله ، ومن جلس في بيته لم يغتب إنسانا كان ضامنا على الله } وعند الطبراني { أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم هو من الناس } وهو عند أبي داود بنحوه . ورواه الطبراني أيضا في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { خصال ست ما من مسلم [ ص: 463 ] يموت في واحدة منهن إلا كان ضامنا على الله أن يدخله الجنة ، فذكر منها ورجل في بيته لا يغتاب المسلمين ولا يجر إليهم سخطا ولا نقمة } .

وروى أيضا في الأوسط والصغير وحسن إسناده عن ثوبان قال : رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { طوبى لمن ملك لسانه ، ووسعه بيته ، وبكى على خطيئته } . والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والبيهقي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال { قلت يا رسول الله ما النجاة ؟ قال أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك } .

وروى الطبراني أيضا بإسناد مقارب عن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا { من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنه ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها } . ورواه أبو الشيخ في الثواب وله شواهد .

وأما حديث { السلامة في العزلة } فهو وإن كان معناه صحيحا فليس بحديث . نعم قال السخاوي : أسند الديلمي معناه مسلسلا عن أبي موسى رفعه { سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته } ثم ساق قول أبي حيان رحمه الله تعالى :

أرحت نفسي من الإيناس بالناس لما غنيت عن الأكياس باليأس     وصرت في البيت وحدي لا أرى أحدا
بنات فكري وكتبي هن جلاسي

وقال سيدنا عمر رضي الله عنه : خذوا حظكم من العزلة .

قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : والله لوددت أن بيني وبين الناس بابا من حديد لا يكلمني أحد ولا أكلمه حتى ألحق بالله عز وجل . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لولا مخافة الوسواس لدخلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس .

وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : العزلة عبادة وقال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة .

وأوصى داود الطائي : فر من الناس كما تفر من الأسد [ ص: 464 ] وأوصى سفيان الثوري رحمه الله تعالى بعض أصحابه فقال : إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل ، وليكن همك مرمة جهازك ، وكان يقول هذا زمان السكوت ولزوم البيت .

وقد كان سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه يحب الانفراد والعزلة من الناس ، وكذلك إبراهيم بن أدهم ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط في خلق كثير من الخواص .

التالي السابق


الخدمات العلمية