غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ثم ذكر الناظم رحمه الله تعالى بعض فوائد الخلوة غير ما قدمه فقال : ويسلم من قال وقيل ومن أذى جليس ومن واش بغيض وحسد ( ويسلم ) هو ( من قال ) فلان ( و ) من ( قيل ) في فلان وعن فلان ، وهو مما كرهه الله سبحانه وتعالى لنا كما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال } . رواه البخاري واللفظ له ومسلم وأبو داود ورواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة بنحوه ، والمراد حيث كان ذلك مما لا يعنيه ، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } .

( و ) يسلم أيضا ( من أذى جليس ) أي مجالس ، يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى فاعله أي ويسلم المعتزل من الأذى الصادر من الجليس وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي ويسلم في وحدته وخلوته من أن يؤذي هو جليسه ، ولا شك أن المتخلي سلم من الشيئين معا .

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة } قوله يحذيك أي يعطيك .

وعند أبي داود والنسائي عن أنس مرفوعا { مثل جليس الصالح كمثل [ ص: 465 ] صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه ، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه } .

وروى الحاكم والعسكري عن أبي ذر مرفوعا : { الوحدة خير من جليس السوء ، والجليس الصالح خير من الوحدة ، وإملاء الخير خير من الصمت ، والصمت خير من إملاء الشر } .

( و ) يسلم أيضا ( من ) شخص ( واش ) يقال وشى فلان كلامه كذب فيه ، ووشى به إلى السلطان وشيا ووشاية نم وسعى ، وفي خبر ضعيف : خرجنا نشي بسعد إلى عمر . قال في النهاية : يقال وشى به يشي وشاية إذا نم عليه وسعى به فهو واش وجمعه وشاة ، قال وأصله استخراج الحديث باللطف والسؤال ، ومنه في حديث الإفك { أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يستوشيه ويجمعه } أي يستخرج الحديث بالبحث عنه .

وفي رسالة ابن زيدون لابن أجهور : فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح ، ونبأ جاء به فاسق ، وهم الهمازون المشاءون بنميم ، والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا ، والغواة الذين لا يتركون أديما صحيحا والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال : ما ظنك بقوم الصدق محمود إلا منهم .

قال الصلاح للصفدي في شرح الرسالة المذكورة في قوله : والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا الأصل في هذا قول كثير عزة :

    لعم أبو الواشين لا عم غيرهم
لقد كلفوا في خطة لا أريدها     ولا يلبث الواشون أن يصدعوا العصا
إذا هي لم يصلب على المرء عودها

مطلب : حكاية لطيفة .

ذكرها الصلاح الصفدي في شرح الرسالة المذكورة قال : كان الخليلنجي القاضي عبد الله بن محمد ابن أخت علوية المغني وكان ثقة ثبتا صدوقا تقلد القضاء للأمين ، وكان علوية عدوا له ، فجرت له قضية في بغداد فاستعفى من القضاء وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة . فتولى قضاء دمشق أو حمص ، فلما تولى المأمون الخلافة غناه يوما علوية بشعر الخليلنجي وهو : [ ص: 466 ]

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي     أتاك به الواشون عني كما قالوا
ولكنهم لما رأوك غرية     بهجري تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة     ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا

فقال له المأمون : من يقول هذا الشعر ؟ قال : قاضي بدمشق ، فأمر المأمون بإحضاره فأشخص وجلس المأمون للشرب وأحضر علوية ودعا بالقاضي ، فقال له : أنشدني قوله برئت من الإسلام الأبيات ، فقال يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها من أربعين سنة وأنا صبي والذي أكرمك بالخلافة ، وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ عشرين سنة إلا في زهد أو في عتاب صديق ، فقال له : اجلس فجلس ، فناوله قدح نبيذ كان في يده فأرعد وبكى ، وأخذ القدح من يده ، وقال : يا أمير المؤمنين ما غيرت الماء قط بشيء مما يختلف في تحليله ، فقال لعلك تريد نبيذ الزبيب ، فقال لا والله يا أمير المؤمنين لا أعرف شيئا من ذلك ، فأخذ المأمون القدح من يده وقال : أما والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك . لقد ظننت أنك صادق في قولك كله ولكن لا يتولى إلي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام ، انصرف إلى منزلك ، وأمر علوية فغير هذه الكلمة وجعل مكانها حرمت مكاني منك والله الموفق .

وقول الناظم ( بغيض ) صفة لواش ( و ) يسلم الإنسان في خلوته أيضا من ( حسد ) جمع حاسد ، وتقدم الكلام عليه بما فيه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية